"دولة نباتية صديقة للحيوانات".. كيف تستخدم إسرائيل النزعة النباتية للتعمية على سياسات الاضطهاد؟
اختارت المؤسسات الإسرائيلية صورة "نباتي/ودود للحيوان" بوصفها رمزية أخلاقية وحداثية مهمة لمن يوصفون "بمؤسسي الشعب الإسرائيلي"، ويسهم ترويج الأفكار النباتية في "تبييض الخطيئة الأصلية" المتمثلة في الاستيطان ونزع ملكية الفلسطينيين، وإضفاء الشرعية على سيادة المستوطنين، وتستثمر إسرائيل في ذلك لبناء شرعية أخلاقية.

في الخطاب العام لوسائل إعلام غربية سائدة، تتم الإشارة إلى إسرائيل بوصفها "أول دولة نباتية " و"جنة النباتيين"، وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع تصور احتفاء الجيش الإسرائيلي بأسلوب الحياة النباتي والجنود النباتيين بين صفوفه؛ مما يعكس صورة دعائية عن التسامح والتقدمية.
وبينما يتم تقديم الحركة النباتية في إسرائيل بوصفها جزءا لا يتجزأ من "النضال من أجل العدالة للجميع ومناهضة أشكال الاضطهاد كافة"؛ تصطدم صورة التسامح والانفتاح والتقدمية الإسرائيلية تلك بواقع وصفه المقرر الأممي الخاص المعني بالأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأنه يرقى لجريمة فصل عنصري.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsاستدعاء النص الديني لتبرير العمل العسكري.. عسكرة الكتاب المقدس بين إسرائيل وأميركا
انتحال الثقافة والسطو على الطعام.. كيف أصبح المطبخ الفلسطيني هدفا للغزو الاستعماري الإسرائيلي؟
مهد الطريق لوعد استعماري دمر فلسطين.. دور بلفور المنسي في إنشاء أكاديمية إمبراطورية عنصرية
وتصطدم فكرة النزعة النباتية لإسرائيل كذلك مع فلسفة تلك النزعة التي تستند في جوهرها إلى التعاطف الجذري مع جميع الكائنات الحية والتعايش السلمي معها وتجنب ممارسة العنف ضدها، وإذ تبدو فلسفة النباتية "التقدمية" مفرطة في سلميتها ولاعنفها؛ تحفل قصة إسرائيل بالحروب الداخلية والخارجية، إضافة إلى التهجير ومنع ملايين الفلسطينيين في الخارج من العودة إلى بلادهم وقراهم الأصلية التي هُجّروا منها.
وإضافة إلى ذلك، تستخدم إسرائيل الترويج للأفكار النباتية "التقدمية" للتغطية على الضرر الذي تسببه للحياة الطبيعية والنباتية للمجتمعات الفلسطينية، إلى جانب السطو على التراث الثقافي، بما في ذلك المطبخ التقليدي الفلسطيني بما يحمله من مكونات نباتية، مثل أطعمة الفلافل والحمص وبابا غنوج وورق العنب (الملفوف) الخالي من اللحم وغيرها.
غسل "الملابس القذرة"
وفي دراستها التي عنونتها بـ"غسل الملابس النباتية القذرة في إسرائيل؟ السياسة الحيوانية والقومية في فلسطين وإسرائيل"، تقول إستير علون الأكاديمية بجامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية إن قضية النباتية تم إدراجها في هيكل السرد القومي لإسرائيل؛ إذ أصبحت الأساطير الوطنية عن الاستثنائية الصهيونية إطارا معياريا لرواية الإصلاح النباتي الإسرائيلي عبر تبني سرد "الأمة النباتية الأولى"، واستخدام تلك السردية لتشكيل الرأي العام وحجب عنف واحتلال المستوطنين الاستعماريين.
وترى الباحثة أن رفاهية الحيوان والنزعة النباتية تم إدراجهما كأداة لرواية الأمة الإسرائيلية ضمن شروط السيادة اليهودية الإسرائيلية على الأرض، لتعزيز الأساطير الإقصائية بحق الفلسطينيين، والترويج لادعاءات الضحية الفريدة والإنجازات الرائدة والاستقامة الأخلاقية، التي تزيد ترسيخ الانتماء اليهودي الإسرائيلي بينما تنزع الانتماء عن الفلسطينيين.
وإذ اختارت المؤسسات الإسرائيلية صورة "نباتي/ودود للحيوان" بوصفها رمزية أخلاقية وحداثية مهمة لمن يوصفون بمؤسسي الشعب الإسرائيلي؛ ترى الباحثة أنه من خلال العمل الميداني مع النشطاء الإسرائيليين فإن ممارسات "تبييض الوجه النباتي" تتغاضى عن الفروق الدقيقة والتناقضات في السياسات النباتية والحيوانية الإسرائيلية.
وترى الدراسة أن ترويج الأفكار النباتية يسهم في "تبييض الخطيئة الأصلية" المتمثلة في الاستيطان ونزع ملكية الفلسطينيين، وإضفاء الشرعية على سيادة المستوطنين، وتستثمر إسرائيل في ذلك لبناء شرعية أخلاقية تسهم في تقوية الذات، كونها تقوم على إحساس بانعدام الأمن الشديد، حيث يستمر الفلسطينيون في المطالبة بالأرض والفضاء الوطني.
وعلى هذا النحو يتم تصوير الفلسطينيين -في تلك السردية -على أنهم "الآخرون الملعونون" الذين يشكلون تهديدًا وجوديًّا، ويظهرون كعدو في الأساطير الوطنية الإسرائيلية، ووفرت "الثورة النباتية" الإسرائيلية -كما يسميها البعض- غذاءً ثريًا لتشكيل الرواية الوطنية لإسرائيل وصورتها كدولة نباتية استثنائية صديقة للحيوانات.
اجتاحت "الثورة" إسرائيل في 2011-2012 بفضل نشطاء مثل غاري يوروفسكي، وهو أميركي ناشط في مجال الحيوانات من أصل يهودي، وترجمة محاضرته على يوتيوب إلى العبرية في نشر الفلسفة النباتية في جميع قطاعات المجتمع الإسرائيلي تقريبًا، وبنى شعبيته على نشاط حركة الدفاع عن الحيوانات الإسرائيلية المحلية التي نشأت في الأوساط اليسارية/الأناركية.
الاستثنائية الأخلاقية
حسب الباحثة، تم تأطير شعبية النزعة النباتية والنشاط الحيواني في إسرائيل مرارًا وتكرارًا حول مفاهيم التميز الاستثنائي والإنجازات الفريدة والقيادة الأخلاقية الإسرائيلية، وهي أفكار تبدو متجذرة في عقيدة الاختيار الإلهي التوراتية التي تم نسجها في أدبيات الحركة الصهيونية وأساطيرها، التي صاغت مهمة إسرائيل التاريخية على أنها "تألق أخلاقي ومنارة للعالم"، وهذه المفاهيم ضرورية للهوية القومية اليهودية الإسرائيلية.
وحسب تلك الصورة الإسرائيلية فإنه بينما يتأخر العرب في ذلك المضمار فإن البحث والتطوير الإسرائيلي في قطاع اللحوم المستزرعة -حيث تقود البلاد الطريق لإنتاج "بروتين خالٍ من القسوة" و"لحوم نظيفة"- يعد عملا أخلاقيا واستثنائيا ورائدا يمكن أن ينقذ العالم من الجوع؛ وهذه الصورة المفعمة بمشاعر الوطنية والتفوق الأخلاقي يمكن العثور عليها في أساطير استعمارية صهيونية مبكرة اعتبرت أن مهمتهم الحضارية جلب الحداثة والتقدم إلى أرض قاحلة و"متخلفة".
وفي الأيام الأولى للمشروع الصهيوني، كان العمل في الأرض و"جعل الصحراء تتفتح" وسيلة لتطبيع الانتماء اليهودي في فلسطين واستثناء الفلسطيني وإقصائه، وبعد عقود عديدة يعمل الترويج لهذه الأفكار حاليا على حجب "مطالبات الفلسطينيين بالأرض"، ويبرر "بأثر رجعي" نزع ملكية الفلسطينيين "الأقل شأنا" من قبل اليهود "المتفوقين"؛ مما يغذي سياسات الإقصاء والتهجير والعنف ويبرر الاستيطان.
وهكذا فإن ادعاء إسرائيل بأنها أول دولة ناشئة كأمة نباتية يزيد تطبيع علاقة اليهود الإسرائيليين بالمكان، ويضفي الشرعية على ارتباط المستوطنين بالأرض المستعمرة.
تسييس النزعة النباتية
تخلص الدراسة إلى أن الخطابات الشعبية النباتية في إسرائيل تنشط وتوسع الأساطير القومية الموجودة التي صاغت صورة "يهودية إسرائيل" وهويتها الوطنية، وفي هذه الروايات يشكل الفلسطينيون نصًا فرعيًا وضدا لصورة وطنية مثالية مرغوبة.
ورغم محاولة النشطاء النباتيين الإسرائيليين تأكيد أن نشاطهم محايد وغير سياسي، فإن الإطار العام لنشاطهم يقع في قلب الهيكل الاستعمار الاستيطاني القومي ويستخدم لحجب الخلفيات الاستعمارية وتبييض وجه الاضطهاد العنصري عبر إبراز صورة حداثية وتقدمية واستثنائية.
وبهذه الطريقة يجري التعتيم على "الغسيل القذر" للدولة وعنف سياساتها الاستعمارية الاستيطانية؛ ففي إسرائيل -التي تهتم بالحيوانات أكثر من سكانها الأصليين- يمكنك أن تكون نباتيًا أو تذهب للقتال ضد "الأعداء" بمعطف خال من الجلد الحيواني وحصص غذائية نباتية، لكن لا يمكنك دعم حقوق الفلسطينيين الذين يتم حرمانهم من حقوق "الكائنات الحية".