استمرارية حملة قديمة.. تاريخ سياسات استهداف الإسلام والكاثوليكية في الجمهورية الفرنسية

أدى طرد اليسوعيين وقانون الفصل بين الكنيسة والدولة عام 1905 إلى تقليص دور الكاثوليكية في المجال العام بفرنسا، لكنه بالكاد أنهى الصراعات بينهما. وبحسب المؤرخ رينيه ريمون، لم تتوقف قيادة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية عن الطعن في وجود الجمهورية إلا في ثلاثينيات القرن الماضي.

راهبة تمشي إلى جوار كنيسة نوتردام دو روزير في مزار لورد جنوب غرب فرنسا (الفرنسية)

تحت اسم "مكافحة النزعة الانفصالية"، يستهدف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المسلمين في فرنسا بسياسات قاسية تشمل مراقبة المساجد وإغلاق المدارس غير المسجلة وجعل الأئمة يوقعون قسم الولاء، وفق موقع "لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس".

ولكن هذه الإجراءات -رغم أنها جديدة وغير مسبوقة- تبدو قائمة على تقاليد العلمانية الفرنسية التي كانت تستهدف في الأصل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية القوية، في محاولة للفصل بين الكنيسة والدولة عام 1905.

وفي مقال نشره موقع "لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس" (Los Angeles Review of Books)، يوضح الكاتبان ريتشل جونستون وايت وجوزيف بيترسون أن العلمانية الفرنسية باتت الآن موجهة نحو الأقلية ذات الأصول المهاجرة التي يعيش العديد من أفرادها في مساكن عامة ويواجهون التمييز العنصري والوظيفي، وتعرّض أسلافهم للضرب حتى الموت وألقي بعضهم في نهر السين عام 1961. لكن من الصعب تجاهل حقيقة أن العلمانية الفرنسية تشهد حاليا تقهقرا، وأن الإجراءات الأخيرة التي أقرّها ماكرون الهدف منها استدراج الناخبين المحافظين.

استمرارية حملة قديمة

يبدو أن هذه الإجراءات تعكس تحولا جذريا في هدف العلمانية، ورغم اختلاف السياقات، لا يمكن إنكار الاستمرارية بين حملة الجمهورية الثالثة ضد الكاثوليكية في أوائل القرن العشرين والحملة الحالية ضد الإسلام.

فالطريقة التي تعامل بها العلمانيون في القرن التاسع عشر مع الكاثوليكية تشبه إلى حد كبير السياسات المتبعة ضد الإسلام، حتى أن بعض الكاثوليك الفرنسيين بدؤوا قبول هذه المقارنة معتبرين المسلمين حلفاء ضد العلمانية العدوانية للدولة الفرنسية. وفي الواقع، لم يكن هدف العلمانية في فرنسا إقصاء الدين كليا من المجال العام الفرنسي، وإنما تعريف حدوده وتحييده واستخدامه لأغراض تخدم الدولة.

لتجنب المواجهات غير الضرورية مع المواطنين الكاثوليك، تسامحت الجمهورية الثالثة مع مظاهر التدين في المدارس العامة، ومولت ممتلكات الكنيسة، وكانت تعين وتدفع رواتب رجال الدين الكاثوليك في مقاطعات الألزاس واللورين. مع ذلك، رأى مؤسسو الجمهورية الثالثة أن الطوائف الكاثوليكية المسيسة من بين الأعداء المحتملين للأمة، ولكن ليس أكثر خطورة من اليسوعيين الذين منعوا من التدريس وطردوا من فرنسا عام 1880.

وكان العديد من الشكاوى الشائعة ضد الكهنة اليسوعيين مشابهة لما يشاع ضد المسلمين اليوم، حيث اتهموا بأنهم دولة داخل دولة وأنهم غير وطنيين وأقلية غير مندمجة وأن ولاءهم الحقيقي لقوة خارج الدولة الفرنسية. وبحسب جون بادبرغ وجيفري كوبيت وغيرهما من المؤرخين، اتهم اليسوعيون منذ فترة طويلة بأنهم هيئة سياسية مختبئة تحت ستار مؤسسة دينية.

هدف لسياسات الدولة

وبما أن تنظيمهم الداخلي لم يكن يعرف عنه سوى القليل، كان اليسوعيون هدفا لنظريات المؤامرة التي شوهت صورتهم وبالغت في تقدير قوتهم الفعلية وتأثيرهم وتطرفهم، لدرجة جعلت منهم محور الحروب الثقافية ضد رجال الدين والحملات السياسية التي تهدف إلى تحقيق انتصارات انتخابية، بدلا من حلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية التي عانت منها الجمهورية الثالثة.

وأشار الكاتبان إلى أن اليسوعيين وغيرهم من رجال الدين كانوا مكروهين بشكل خاص بسبب التأثير الذي مارسوه على النساء المتدينات في فرنسا. وكما هي الحال مع الحجاب اليوم، كان الأمر متروكا للرجال العلمانيين في فرنسا لتثقيف وحماية النساء.

أثر هذا الارتباط بين الطوائف الكاثوليكية والإسلام على الضباط الاستعماريين في الجزائر، الذين افترضوا أن الجماعات الإسلامية كانت مسيسة وتآمرية مثل اليسوعيين. أعجب بعض المبشرين اليسوعيين في الجزائر بالالتزام الديني لمسلمي الجزائر وأملوا في تحويلهم إلى المسيحية، لكن جهودهم أثارت شكوكا عميقة من جانب الدولة الاستعمارية.

تقليص الكاثوليكية

وأدى طرد اليسوعيين وقانون الفصل بين الكنيسة والدولة عام 1905 إلى تقليص دور الكاثوليكية في المجال العام لفرنسا، لكنه بالكاد أنهى الصراعات بينهما. وبحسب المؤرخ رينيه ريمون، لم تتوقف قيادة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية عن الطعن في وجود الجمهورية إلا في ثلاثينيات القرن الماضي.

خلال ثلاثينيات القرن الماضي، سعى الكاثوليك في جميع أنحاء أوروبا إلى إيجاد حلول سياسية جديدة، وتحالفوا في كثير من الأحيان مع المستبدين الذين وعدوا باستعادة مكانة الكنيسة في المجتمع. وعندما سقطت فرنسا في يد النازيين عام 1940 وانهارت معها الجمهورية الثالثة، حزن القليلون على نهاية النظام الليبرالي العلماني.

بحلول عام 1945، انتهت التجربة الكاثوليكية الأوروبية مع الحكومات اليمينية المتطرفة في كل مكان باستثناء إسبانيا والبرتغال، وقبل الكاثوليك في فرنسا مصيرهم. بدلا من ذلك، كانوا يتطلعون إلى الديمقراطية المسيحية وإلى إنشاء دولة الرفاهية التي أعطت الكاثوليك الكثير مما كانوا يطمحون إليه.

رغم عودة ظهور التدين لفترة وجيزة بعد الحرب، كان بعض الكاثوليك يعتبرون الممارسات الدينية للمسلمين في الجزائر مصدرا للروحانية المتجددة لفرنسا العلمانية، وكان أكثر ما أعجبوا به الطبيعة الشاملة للدين في حياة المسلمين.

وبحسب ما أشار إليه الأنثروبولجي الأميركي طلال أسد في نقده للعلمانية، فإن معتنقي الكاثوليكية والإسلام غير مرتاحين لفكرة اقتصار الدين على الحياة الخاصة، وكلاهما يطمح إلى تشكيل المجتمع من الفضاء العام إلى التعليم، وقد وجد معارضو الحظر الأوروبي الأخير للحجاب والبرقع حلفاء بين الكاثوليك الذين يرون أن الدول تتجاوز نطاق صلاحياتها عندما تسعى إلى تنظيم التعبيرات الشخصية عن الإيمان في الفضاء العام.

الحرب الاستعمارية

وتساءل الكاتبان عن سبب تحول العلمانية الآن إلى قضية يمينية تكتسب مؤيدين كاثوليكًا بارزين، والإجابة هي أن الماضي الاستعماري الفرنسي المشحون يلعب دورا في ذلك، وعلى وجه التحديد الثورة الجزائرية التي وضعت الإسلام والمسيحية على طرفي نقيض، حيث خاض جيش فرنسا العلمانية -ظاهريا- لأول مرة ما يعتبره حربا دفاعا عما يسمى بـ"الحضارة المسيحية".

ونتيجة لذلك، واجه الجزائريون التعذيب المنهجي والتجويع والاعتقال في المعسكرات، بينما وجدت الكاثوليكية الفرنسية الرجعية نفسها متحالفة مع الدولة الجمهورية آنذاك.

وفي عام 2003، شكل البرلمان الفرنسي لجنة خاصة للاستماع إلى شهادات حول الحظر المقترح للحجاب في المدارس، وأجرى مقابلة مع قادة مسلمين لقياس ردود أفعال المسلمين الفرنسيين. وقد حاول أن يشرح أن الحجاب شعيرة دينية وليس محاولة للتبشير العلني، لكن أحد النواب رد عليه بالقول إن هذا تمييز "يسوعي".

المصدر : الصحافة الأميركية

إعلان