ثورة ضد الاستعباد وتراث لم يندثر.. تاريخ المسلمين السود في الأميركتين

لا تزال الجالية المسلمة في بربادوس -مثلا- تكافح للتمسك بجذورها وتأكيد تكيفها مع البيئة المحلية في الآن ذاته. ويقول أكو، وهو بربادوسي من أصل أفريقي، "لقد نُزعت هويتنا بوصفنا شعبا أفريقيا بمنطقة البحر الكاريبي، ويتعين علينا البحث عن جذورنا. إذا ما نظرت إلى الخلفية الثقافية في بلادنا يمكنك أن تلاحظ تأثير المسلمين الأفارقة، لقد كانوا قادة مؤثرين هنا في بربادوس وترينيداد وجامايكا وهايتي".

مطعم المعبد رقم 7 في هارلم بنيويورك 1961 اعتبر أحد أماكن جماعة "أمة الإسلام" التي انتمى إليها مناضل الحقوق المدنية مالكولم إكس (غيتي)

رغم كل الحملات العنصرية ومحاولات التشويه، فإن التأثير الثقافي الإسلامي في الأميركتين بقي راسخا ومؤثرا في شعوب المنطقة حتى اليوم.

وكان الإسلام جزءًا من النسيج الديني الأميركي منذ بداية وصول المستوطنين لأميركا الشمالية، فقد شارك المسلمون الأفارقة -وغيرهم ممن وصلوا للأراضي الجديدة- في بناء أميركا، بدءًا من رسم حدودها إلى قتال الحكم البريطاني.

وجاء المسلمون أولا إلى أميركا الشمالية في القرن الـ16 في إطار الحملات الاستعمارية. أحد هؤلاء المستكشفين كان مصطفى الأزموري، المعروف أيضا باسم إستيفانيكو، الذي يعتبر أول مسلم وأول أفريقي يصل الأراضي الجديدة على حد سواء.

وباع البرتغاليون الأزموري لأحد النبلاء الإسبان، واقتيد عام 1527 على متن سفينة بعثة إسبانية لإنشاء مستعمرة في فلوريدا، وكان أحد 4 ناجين من الرحلة، ويعتبر أحد مكتشفي نيومكسيكو ومنطقة جنوبي غربي الولايات المتحدة الحالية. ويعتقد أنه مات في واحدة من مدن الهنود الحمر بعد جولات استكشافية استمرت قرابة 10 سنوات.

في تقرير نشرته مجلة "نيولاينز" (new lines) الأميركية، يقول الكاتب كين شيتود إن ما يتبادر إلى الأذهان عند الحديث عن المعالم الإسلامية البارزة تلك المساجد والأضرحة في السعودية وفلسطين ومالي وباكستان، لكن منطقة البحر الكاريبي وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة وكندا تحتوي بدورها على معالم تُبرز عمق التأثير الإسلامي، ومنها مصلى شهاب الدين في جزيرة بربادوس، إحدى جزر الأنتيل الصغرى.

وحسب الكاتب، فإن الوجود الإسلامي الذي بدأ مع وصول أول المسلمين السود ضمن الحملات الإسبانية في القرن الـ16، أصبح يشكل جزءًا أصيلا من تاريخ الأميركتين رغم العبودية والتمييز والتهميش لمدة 500 عام، وهو إرث يؤثر اليوم على عشرات الآلاف من المسلمين في أنحاء المنطقة وحول العالم.

ويرى الكاتب أن تتبع قصص المسلمين في المنطقة، مثل قصة شهاب الدين، على امتداد القرون الخمسة الماضية، لا يساعد في فهم تاريخ الإسلام في الأميركتين فحسب، بل في فهم العالم الإسلامي ككلّ بشكل أفضل.

المسلمون الأوائل في المنطقة

ويقول الكاتب إن مصطفى الأزموري (إستيفانيكو)، الذي استعبده القائد الإسباني أندريس دورانتس دي كارانزا عام 1522 وتم إحضاره قسرًا للمشاركة في حملة نارفايز لاستعمار "فلوريدا"، كان من أوائل الأفارقة الذين وطأت أقدامهم الأميركتين، واستمر وجودهم في فلوريدا وخليج المكسيك حتى وصلوا إلى نيو مكسيكو في العصر الحديث.

رغم مآثره والدور الفعال الذي لعبه في المنطقة، فإنه تم استعباده، وتروي الكاتبة الأميركية المغربية ليلى العلمي، في روايتها الخيالية "حكاية المغاربي" (The Moor’s Account)، مغامرات إستيفانيكو وتجربته مع الاستعباد.

في ظل الصراعات والمرض وخطر المجاعة والضياع في قارة غريبة، بقي همّ إستيفانيكو الأكبر استعادة حريته والعودة إلى أزمور في وطنه المغرب.

أدى التوسع الاستعماري السريع في الأميركتين إلى ظهور تجارة العبيد القادمين من غربي أفريقيا، والتي استمرت لقرون، تاركة بصمة واضحة عبر المحيط الأطلسي.

كانت السفن تغادر الموانئ الأوروبية، مثل نانت في فرنسا وبريستول في إنجلترا، محمّلة بالعبيد الأفارقة من سواحل غربي القارة السمراء باتجاه الموانئ الأميركية في البرازيل وبربادوس وهايتي وكارولينا الجنوبية.

بمرور الوقت، أصبحت تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي أكبر حركة قسرية لنقل البشر في التاريخ، وتركت أثرا لا يُمحى على التركيبة السكانية في الأميركتين.

التأثير الإسلامي

ويرى المؤرخ غريغ غراندين أن تجارة العبيد كانت "الباب الخلفي" الذي وصل من خلاله الإسلام إلى الأميركتين. ورغم أن العدد الحقيقي غير معروف على وجه الدقة، فإن المؤرخين يقدرون أن نسبة المسلمين من بين 12.5 مليون أفريقي نُقلوا عبيدا عبر الأطلسي، تتراوح ما بين 4% و20%.

بمجرد وصولهم هناك، أصبحوا جزءا من صراع الهوية والقيم في "العالم الجديد". وتقول الباحثة آيلا آمون، التي عملت سابقًا في المتحف الوطني للتاريخ والثقافة للأميركيين من أصل أفريقي التابع لـ"مؤسسة سميثسونيان" (Smithsonian Institution)، إن المسلمين الأفارقة وجدوا أنفسهم في قلب المخاض الاجتماعي والتشريعي المعقد منذ اللحظة التي وصلوا فيها إلى الشواطئ الأميركية، وقد لعبوا دورا فعالا في إنشاء أميركا التي نعرفها الآن، ورسم معالمها الثقافية والسياسية، ومقاومة الحكم الاستعماري.

وتشير العقود وسجلات ملكية العبيد، والموروث الثقافي الموجود إلى اليوم، إلى حجم تأثير المسلمين الأفارقة في الأميركتين. كان محمد كابا ساغانوغو أحد أولئك العبيد الذين تركوا إرثا بارزا، حسب الكاتب.

تم إحضار كابا قسرا إلى جامايكا عام 1777، وكان مجبرًا على الخدمة في مزارع البن بالقرب من بلدة مانشستر باريش في مدينة ماندفيل. رغم أنه اعتنق المسيحية لاحقاً وأصبح عضوًا في كنيسة مورافيا، ولم تكن لغته العربية جيدة، فإن كتاباته تكشف عن التزام العبيد بالصلوات والطقوس الصوفية.

يضيف الكاتب أن الكثير من العبيد الأفارقة، مثل كابا، وأغلبيتهم كانوا رجال دين في غربي أفريقيا، وظفوا معارفهم لتطوير المجتمعات الزراعية في الأميركتين، وحصل العديد منهم على مناصب قيادية في تلك المجتمعات.

وتؤكد آمون أن الأفارقة وظّفوا اللغة العربية لإدانة العبودية والمطالبة بالعودة إلى أفريقيا، في حين جلب آخرون من غير المتعلمين بعض الطقوس الإسلامية التي كانت سائدة في غربي أفريقيا.

وتشير الأدلة المتوفرة إلى أن العبيد المسلمين كانوا يؤدون الصلوات ويعملون في المزارع ويأكلون الطعام الحلال قدر الإمكان، كما قاوموا الاستعباد وحاربوا الأفكار العنصرية التي كانت تُظهر الأفارقة كأشخاص متخلفين وغير متعلمين.

ورغم آثارها السلبية على الثقافة والمجتمع في المنطقة، فإن العبودية شكّلت -وفقا للكاتب- حافزًا للتكيف والتغيير الاجتماعي في الأميركتين.

في أحد أيام الأحد من شهر رمضان (يناير/كانون الثاني) 1835م، أطلق مجموعة من مشايخ الدين المسلمين حركة تمرّد أفريقية في مدينة سلفادور دي باهيا بالبرازيل، عُرفت بثورة "الماليز". رغم نهايتها السريعة، فإن الإرث الرمزي لتلك الثورة كمثال استمر يُظهر دور المسلمين في مقاومة السود للقمع والعنصرية في الأميركتين، بحسب الكاتب.

استمر المسلمون في تشكيل تاريخ المنطقة من خلال قيادة العبيد للتمرد في البرازيل أعوام 1813 و1826 و1827 و1828 و1830 و1835، وفي هايتي عام 1786، وساعدوا في إنشاء مستعمرات للجوء والمقاومة من خلال تأسيس مجتمعات المارون في جامايكا والبرازيل.

تجمع لبعض المسلمين من أصل أفريقي قبل مسيرة في سان فرانسيسكو  بكاليفورنيا 1970 (غيتي)

موروث يقاوم الاندثار

سعت القوى الاستعمارية في المقابل إلى إخماد تلك الثورات، وطمس معالم الثقافة التي جلبها الأفارقة معهم من أوطانهم، وهو ما أدى -حسب الكاتب- إلى اندثار جزء كبير من الإرث الإسلامي في الأميركتين بحلول نهاية القرن الـ19، بسبب قمع السود وحرمانهم من تأدية شعائرهم الدينية في العلن ونقل معتقداتهم إلى الأجيال الجديدة.

في هذا السياق، تقول المؤرخة الفرنسية من أصل سنغالي سيلفيان ضيوف "لا يوجد مجتمع واحد في الأميركتين ومنطقة البحر الكاريبي حاليا يمارس الإسلام كما توارثته الأجيال الأفريقية السابقة".

ويؤكد الكاتب أنه رغم اندثار الإسلام بوصفه دينا حيّا في الأميركتين، فإنه انتقل بوصفه موروثا ثقافيا ما زالت آثاره بارزة حتى اليوم، وهو ما يظهر من خلال تعويذات إسلامية أفريقية موجودة حتى الآن في البرازيل، وكلمات عربية شقت طريقها إلى الموسيقى في بيرو وكوبا وترينيداد ومناطق أخرى.

ويعتقد المؤرخ مايكل غوميز أن موسيقى البلوز والجاز لها جذور في موسيقى غربي أفريقيا⁠، كما أن للموروث الإسلامي دورا مهما في تشكيل موسيقى الراب الأميركية.

وترى الأستاذة المشاركة بقسم الدراسات الأفروأميركية بجامعة لندن الدكتورة عالية خان أن التقاليد الصوفية الأفريقية القديمة أثرت على الأدب الكاريبي المعاصر، وهو ما يظهر مثلا من خلال كتابات الشاعر محمد عبد الرحمن سليد، من دولة غويانا.

وحسب الكاتب، يظهر الإرث الإسلامي من خلال منظمات ومجموعات وطوائف أنشأها السود الأفارقة في الأميركتين، وتقوم أساسا على إرث الأسلاف من العبيد وتشجع على مقاومة العبودية بشكلها الحديث.

ولا تزال الجالية المسلمة في بربادوس، مثلا، تكافح للتمسك بجذورها وتأكيد تكيفها مع البيئة المحلية في الآن ذاته. ويقول أكو، وهو بربادوسي من أصل أفريقي، "لقد نُزعت هويتنا بوصفنا شعبا أفريقيا في منطقة البحر الكاريبي، ويتعين علينا البحث عن جذورنا. إذا ما نظرت إلى الخلفية الثقافية في بلادنا يمكنك أن تلاحظ تأثير المسلمين الأفارقة، لقد كانوا قادة مؤثرين هنا في بربادوس وترينيداد وجامايكا وهايتي".

ويرى أكو في الكشف عن الجذور العميقة والموروث الإسلامي الأفريقي وسيلة لتهدئة مخاوف السود وتركيز جهودهم على مقاومة العنصرية في الداخل والخارج.

وتقول مؤرخة العرق والدين والسياسة ألينا مورغن إن المسلمين في ترينيداد وجزر البهاما وهايتي وبورتوريكو يستغلون الإرث الإسلامي الأفريقي لدعم جهودهم في بناء شبكات عالمية مناهضة للاستعمار ومعادية للاستبداد.

ويختم الكاتب بأن العمل على المزيد من استكشاف الإرث الإسلامي في الأميركتين عبر القرون الماضية، يمكن أن يساعدنا في فهم ومعالجة قضايا معاصرة مثل الإسلاموفوبيا والتحيز ضد المسلمين والعنصرية في الأميركتين.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية