رقصة الشامان الأخيرة.. حين يكون الحب دافعا للثورة

رقصة الشامان الأخيرة
رواية "رقصة الشامان الأخيرة" للروائي السوري عبد الرحمن حلاق صدرت عن دار الفراشة في الكويت 2021 (الجزيرة)

"(لا) هي الهاجس الممتد منذ بدايات الوعي إلى هذه اللحظة، تحفر عميقا في وجداني، تتسرب مرة وتتوارى خلف ستارة من الخوف مرات، أن تقول (لا) فهذا يعني أنك تعيد اكتشاف لحظة الشجاعة الأولى".

من الرفض يفيض السرد في رواية "رقصة الشامان الأخيرة"، الرفض للطائفية والفئوية، للقمع والقتل والدمار والتهجير، للكراهية والحقد. رفض يتناوب على تأكيده مجموعة من الرواة الذين اختارهم الروائي السوري "عبد الرحمن حلاق" ليجسدوا بأصواتهم مختلف أطياف المجتمع السوري في أخطر منعرج سياسي شهدته البلاد؛ وهو الثورة السورية 2011.

فمن خلال صوت خالد وصفاء وريم وصباح وغيرهم من الرواة نعيش فصول الثورة السورية ونقف على أهم تحولاتها ونرى مختلف وجهات النظر التي اتخذها السوريين في كل منعطف مهم من منعطفاتها، مأخوذين بهواجس الشخوص وانفعالاتها ورشاقة السرد على طول الرواية الصادرة عن دار الفراشة- الكويت، والممتدة إلى 220 صفحة من القطع المتوسط.

موت مصطفى ووأد السلمية

"إن هذا المبنى كان مدرسة، هدمت البراميل المتفجرة جانبا منها، كذلك اختفت من صفوفها مقاعد التلاميذ الخشبية، مؤكد أن الأهالي استخدموها حطبا للتدفئة، لا ماء ولا كهرباء، لا شيء غير الحطام وبقايا ضوء يتسلل من هلال نحيف". بهذه الكلمات يصور خالد (شخصية/ راو) دمار مدرسة في مدينته حلب بالبراميل المتفجرة، وهي المدرسة التي اضطر للمبيت فيها بعد مطاردة الأمن له ولرفاقه على إثر نشاطهم الإنساني والثقافي الداعم للثورة.

وبينما يتحسس خالد بصعوبة معالم طريقه إلى داخل المدرسة في غمرة الظلام، لم تكن صورة صديقه مصطفى وهو يخر على الأرض صريعا تفارق ذهنه، لقد تمكن الأمن من إصابته برصاصة استقرت في عنقه قبل أن يكمل كلمته الأخيرة متوجها بها إلى رفاقه "اهربوا".

** للاستخدام الداخلي *** الروائي السوري عبد الرحمن حلاق
الروائي السوري عبد الرحمن حلاق (مواقع التواصل)

إنها اللحظة التي أدرك فيها خالد أن الانقسام في سوريا ليس بين "المقهورين والمضطهدين والفقراء" وبين "عصابة الأسد والمنتفعين منها" فقط، ولكن بين المقهورين والمضطهدين والفقراء أنفسهم كان ثمة انقسامات عمل النظام على خلقها خلال عقود من الحكم بالحديد والنار.

وفي حين يئن خالد من برده في تلك المدرسة المدمرة، كانت صباح (شخصية/ راوية) قد نجحت في الاختباء بإحدى الشقق السكنية في الحي الذي داهمتهم فيه قوات الأمن، وتمكنت من رؤية المشهد الأخير لوفاة مصطفى متأثرا برصاص الأمن، ومن خلالها نعلم أن من أجهز على مصطفى لم يكن إلا شقيقه "عدنان" الذي ارتمى على صدر أخيه باكيا بعد أن تعرف على هويته.

موت خيمت أصداؤه على الصفحات الخمسين الأولى من العمل، وما هو موت لمصطفى على يد شقيقه عدنان على صعيد القصة، يمكن قراءته بوصفه رمزا مكثفا يشير للتحول الذي شهدته الثورة السورية من السلمية إلى المسلحة على صعيد النص. تحول كان نتيجة للتصعيد الأمني من قبل النظام، تصعيد حوّل المطالب المحقة إلى تهديد وجودي للدولة، وحوّل النشطاء السلميين إلى أعداء للأمة، والأخوة إلى قتلة وضحايا "كانت الثورة ضوءا جميلا وكنا نطير إليه، الآن ثورتنا نيران" كما يقول زكريا أحد الرواة.

دولة الطائفية

مع ولوج شخصية حمزة مسرح الأحداث ولقائه بالشيخ رضوان نتعرف إلى عدو آخر واجهته الثورة، حيث يسعى رضوان وكتيبته المسلحة إلى تطييف الثورة وقلب الثوار إلى مجاهدين مستفيدين من الدعم الخارجي الموجه، بينما يدرك حمزة أن ذلك بالضبط ما يحتاج إليه النظام لكسب المعركة.

"النظام يا شيخ رضوان قائم على العنف العسكري والأمر الوحيد الذي يجيد المتاجرة به هو الإرهاب، وقد أيقن من أول مظاهرة أنه لن يستطيع مجابهة المظاهرات المدنية، هو يدفعنا دفعا لحمل السلاح من جهة، ولتطييف الثورة من جهة، في هذه الحالة فقط يستطيع أن يقمع شعبا كاملا بحجة الإرهاب" يقول حمزة لرضوان محاولا إقناعه بالعدول عن توجهه ذاك، إلا أن رضوان لا يكترث لما قاله حمزة ويمضي قدما في خطته.

ومن خلال شخصية حمزة، ابن الطائفة العلوية -طائفة الرئيسين حافظ وبشار الأسد- والمنحدر من قرية ساحلية فقيرة، يسعى عبد الرحمن حلاق إلى تفكيك الدولة الطائفية التي بناها النظام السوري على مدار 4 عقود، فيقول حمزة "منذ أن استلم الدكتاتور الأب الحكم خرجنا من تلك القرى المغلقة، كان أقصى الحلم أن نعيش حياتنا بشكل طبيعي بما يتناسب وتطور البشرية، ولكنه زرع فينا خوفا جديدا، مفاده الخوف من زوال السلطة، فبزوالها سيعيدنا أهل السنة إلى زرائب الأبقار ثانية، بهذا الخوف أيقظ في الطائفة روح الثأر والانتقام والتشبث بالسلطة مهما يكن الثمن".

وعلى لسان شخصية غيث المنحدر من محافظة السويداء ذات الأكثرية الدرزية يؤكد الحلاق على مدنية الثورة السورية؛ "يكفي النظر لمجموعتنا وما تقوم به من عمل لتسقط كل الاتهامات الطائفية للثورة، أربعة عشر شابا وفتاة من مختلف الطوائف، نعمل معا، نجمع المال والثياب والدواء، نضحك معا، نأكل معا، ونتسكع في مقاهي دمشق معا، كنا قبل الثورة نخصص حفلات في دور الأيتام ورياض الأطفال. اليوم أصبحنا كلنا أيتام وطن يذبح".

ولكن موت غيث نهاية المطاف كان خير دليل على انتصار النزعة الطائفية في الثورة، فعلى الرغم من موقفه الداعم للثورة ووفاته متأثرا بشظايا من صاروخ أطلقه النظام على حي مدني في حلب الشرقية، حيث كان يعمل متطوعا وحبيبته صفاء في فريق الدعم النفسي لإدخال البهجة إلى قلوب الأطفال الفزعين من أصوات القصف، إلا أن القيادات الجديدة للكتائب والوافدة من خارج سوريا حرمت دفنه في أراض مسلمة رغم كل الجهود التي بذلها رفاقه لإقناعهم بذلك ورغم كل التفسيرات الدينية التي ساقها الشيخ المعتدل "عثمان".

تعدد الأصوات.. وصراع السرديات

واعتمد عبد الرحمن حلاق شكليا على تقنية تعدد الأصوات، حيث يكون لكل شخصية حيز من الفضاء النصي يملأه بالسرد عبر ضمير المتكلم بدون تدخل من راو عليم يفرض عليها قناعاته أو لغته، فتبقى للشخوص بذلك حرية التعبير عن قناعاتها الشخصية بمفرداتها الخاصة.

وعن ذلك الاختيار الفني يقول عبد الرحمن حلاق للجزيرة نت "يعكس هذا التعدد بالأصوات الاختلاف الكبير في الرؤى الفكرية للشخصيات ومن حق الشخصية أن تنقل وجهة نظرها بضمير المتكلم إن كنا نؤمن بالديمقراطية وقبول الآخر، كما يحقق هذا التعدد بتصوري درجة عالية من الإقناع أثناء تجربة القراءة".

ويضيف "الملاحظ في روايتي أنها جمعت عدة شخصيات وبرؤى فكرية مختلفة وهي تعمل معا يدا بيد وتسير تجاه هدف محدد، كما أرادت من ذلك إظهار تلك الحالة الثورية الشعبية التي رأيناها في السنة الأولى من الثورة قبل أن تبدأ الثورة المضادة بالعمل على الهدف المضاد، فرأينا مجموعة شباب وصبايا من مختلف الطوائف والإثنيات والمرجعيات الفكرية وهم يناضلون ببسالة ضد المستبد".

وإلى جانب تعدد الأصوات، اتكأت الرواية على عدة أحداث واقعية لتنطلق منها إلى المتخيل الروائي، وعن أهمية هذا المزيج بين الواقعي والمتخيل يقول عبد الرحمن حلاق للجزيرة نت "نعيش اليوم صراع سرديتين متباينتين؛ سردية النظام الذي يشوه الحقائق ويزيف الصور ليضمن استمرارية هيمنته في الحاضر والمستقبل، وسردية الشعب الثائر الذي ما إن صرخ بالحرية والكرامة حتى جوبه بشتى أنواع الاتهامات التي تصب في خانة التطرف والجهل والطائفية، ولأن الشعب هو الحلقة الأضعف إعلاميا فقد حقق النظام تفوقا ظاهرا في إقناع العالم بوجهة نظره يساعده في ذلك المكنات الإعلامية العالمية، وهنا يأتي دور الرواية في نقل السردية الحقيقية مستفيدة من تقنياتها الفنية في الإقناع لنقل الحقائق بطريقة فنية".

الحب والثورة

"خرجت من جذع الشجرة محمولا إلى الظل، كانت الرماح الثقيلة لا تزال تدق الأرض وصوت الغناء يمزق سحبا سوداء تقترب، أمسكت بعصاي من وسطها وطرقت الأرض ثم أشرت بها إلى جنود الظلام، صار للرماح وظيفة أخرى غير ضبط الإيقاع وغير الصيد، صارت أسنتها تقطر دما أسودا، تقدمت ربة العطاء إلى النبع بعد أن فر جنود العتمة (..) فتدفقت المياه تغمر سطح الأرض فالتأمت جروحها العميقة، وانطفأت حرائق السحر الأسود".

يقول الشامان أو الصوت الذي لم يختر الحلاق له اسما وإنما اكتفى بجعله مميزا نصيا من خلال خط مائل وغامق، وعن هذا الشامان يقول الحلاق "الشامان ليس إلها، إنه إنسان يتمتع ببعض القوى الخارقة كما كان البشر يعتقدون قبل ظهور الديانات السماوية، يعالج المرضى، يتواصل مع الأرواح ليخلصها من عذاباتها".

صوت أسطوري يرافقنا على طول الرواية وينسج من الرموز سرده في عالم آلهة وبشر كالذي نقرأه في الأساطير والملاحم القديمة، يسعى إلى تخليص العالم من الأشجار "المتفحمة" التي يبقيها "أبناء قابيل" واقفة رغم مواتها.

أما في العالم الموازي حيث تتفاعل شخوصنا البشرية (خالد وحمزة وصباح وغيرها) فإنهم لا يغالبون مواجع القتل والدمار إلا بحرارتي الحب والثورة، فبين خالد وصباح، وغيث وصفاء، وآزاد وريم قصص حب تحمل تلك الشخوص على مواصلة النضال ضد الاستبداد، والإيمان إيمانا عميقا بحتمية النصر ولو اشترط النصر عليهم أن يلاقوا حتفهم، حالهم حال "الشامان"، الرجل الأسطورة الذي تمخض وانبثق من رحم الأرض ليخلص بشجرته المضيئة أبناء آدم من عذاباتهم.

وعن علاقة صوت الشامان بأصوات الشخصيات الفاعلة في السرد يحكي عبد الرحمن حلاق "أردت في قصة الشامان أن أعكس أزلية الشر وصراعه مع الخير، لذلك نراها تتزامن مع قصة "غيث" وبطريقة بوليفونية؛ إذ نجد أنفسنا أمام قصتين، قصة أسطورية لرجل يولد من رحم الأرض يحمل شجرته المضيئة ليغرسها وسط تجمع بشري متنوع فيهدد بشجرته شجرة متيبسة آمن بها السابقون، وقصة "غيث" الذي خرج من السويداء إلى حلب ليعيش الثورة بأدق تفاصيلها. يتوازى الصراع الأسطوري مع الصراع الحديث على شكل عتبات مطولة تضيء بعض جوانب واقعنا المظلم وتظهر خطورة رجل الدين عندما يتقمص دور القائد السياسي أو القائد العسكري. فيلعب بذلك دورا تخريبيا في حين يظن أنه يحسن صنعا".

وهكذا تجابه شخوص رواية "رقصة الشامان الأخيرة" الشر والحقد والكراهية والطائفية، بالحب والرقص والنضال والإنسانية، مبرزة الجمال في عالم القبح ومعلنة ثورة داخل الثورة.

المصدر : الجزيرة