المسيحية والرأسمالية.. الدين والسلطة في القرن الحادي والعشرين
يقول مؤلف كتاب "الدين النيوليبرالي.. الإيمان والسلطة في القرن الحادي والعشرين"، إنه في الدول الرأسمالية الغربية اكتسبت السوق الحرة المكانة التي كان يتمتع بها الدين ذات يوم، والتي عوملت على أنها بديهية وحتمية، كما لو كانت "ظروف السوق" نتيجة حتمية وطبيعية للتقدم البشري وأصبحت السوق الحرة أكثر الوسائل فعالية لتحديد الهوية والقيمة.
في القرن الحادي والعشرين، أصبحت النيوليبرالية أمرًا واقعًا في أنحاء العالم، ففي حين أن المصطلح قد يبدو للكثيرين على أنه تخصصي وغامض، فإن عواقبه محسوسة في كل مكان تقريبًا.
ويستكشف كتاب "الدين النيوليبرالي: الإيمان والسلطة في القرن الحادي والعشرين"، الصادر حديثا عن منشورات بلومزبري لأستاذ علم الاجتماع بجامعة دورهام البريطانية ماثيو غيست، النيوليبرالية باعتبارها كشف حساب للمجتمع المعاصر ويأخذ في الاعتبار ما يعنيه هذا لفهمنا للدين، متسائلا عن العلاقة بين الأديان المعاصرة والمنطق النيوليبرالي.
والنيوليبرالية -أو "الليبرالية الجديدة" (Neoliberalism)- مصطلح ظهر للمرة الأولى في نهايات القرن الـ19، ويشير إلى فلسفة اقتصادية تدعم رأسمالية السوق الحرة والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد.
ويعتبر الكتاب أن الليبرالية الجديدة هي منظور يرتكز على اقتصاديات السوق الحرة يتميز بالاحتفاء بالمنافسة واختيار المستهلك. وكان لها تأثير عميق في المجتمعات في جميع أنحاء العالم، ووسّعت نطاقها في جميع مجالات الخبرة البشرية.
ومع ذلك، فإن النيوليبرالية لا تتعلق فقط بالمشروع والفرص. كما أنها تترافق مع القيادة الاستبدادية وعدم المساواة الجسيمة والتلاعب بالمعلومات، فكيف يجب أن نفهم هذه التغييرات، وماذا تعني بالنسبة لوضع الدين في القرن الحادي والعشرين؟ هل تحول الدين إلى سلعة سوقية أو منتج استهلاكي؟
المنظور الاقتصادي
في عرضه للكتاب الذي نشرته مدونة كلية لندن للاقتصاد (LSE) يحاول غيست الإجابة عن هذه الأسئلة، ويقول إن كتابه يقدم مناقشة حول الدين في القرن الحادي والعشرين. ويسأل غيست ما الذي يميز ما يسميه "الدين النيوليبرالي" مستكشفا الأسئلة الاجتماعية والأخلاقية التي تنشأ من النظر إلى أهميته الأوسع.
يقول المؤلف إن المنظور الاقتصادي الذي يدعو إلى الحد من دور الدولة والأسواق الحرة التي يهيمن عليها القطاع الخاص والمشروعات الفردية يمارس مثل هذا التأثير العميق في الدول الغربية ويصبح أكثر من مجرد خيار سياسي.
وحتى بعد الانهيار الاقتصادي العالمي في 2007-2008، وجائحة كورونا، الذي سلط الضوء على إنسانيتنا المشتركة واعتمادنا على التعاون الدولي، فإن قيود براءات الاختراع لرأسمالية السوق الحرة لم تهز مكانتها باعتبارها "الأيديولوجية المهيمنة في العالم" كما يقول المؤلف.
وعلاوة على ذلك، يمتد تأثير النيوليبرالية إلى ما هو أبعد من المجال الاقتصادي، وهي الآن جزء لا يتجزأ من الحياة الثقافية عبر الدول التي شكلتها مصالح السوق الحرة. ونظرًا لتأثيرها المنتشر، لا ينبغي أن نتفاجأ من أن افتراضات النيوليبرالية تشكل أيضًا قيم وسلوك الحركات الدينية في جميع أنحاء العالم، بحسب المؤلف. وكما يناقش المؤلف في كتابه فإن ذلك يتطلب منا تغيير كيفية فهمنا للدين ومكانته في الحياة المعاصرة.
ويقول غيست إن ملاحظة أن الممارسات الدينية يمكن أن تشبه الأسواق التجارية، ليست جديدة؛ فحوالي عام 1905، اشتهر عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بتحديد العلاقة القوية بين أشكال معينة من البروتستانتية في القرن السابع عشر والدوافع الاقتصادية التي ألهمت ظهور الرأسمالية.
الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية
في حين أن فكرة "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" لا تزال مثيرة للجدل، فهناك تقارب دائم بين فروع معينة من المسيحية والمشاريع (التجارية) الخاصة. ويمكن العثور على أمثلة عن الدعاة (المبشرين) المسيحيين الذين يعتبرون الثروة المادية علامة على النعمة الإلهية، وينظرون لاكتساب الثروة باعتباره الطموح الذي يؤيده الرب.
وربط ماكس فيبر (1864-1920) أصول الرأسمالية بالمدن البروتستانتية الحديثة، حيث بدأت الأديرة والكنيسة التي امتلكت ما قد يصل لثلث الأراضي بأوروبا في ترشيد الحياة الاقتصادية بممارسات شبيهة بحكم القانون والبيروقراطية وآليات حل النزاع، والتخصص والدوام المؤسسي وتراكم رأس المال الذي قدمته الرأسمالية الحديثة.
ورأى فيبر أن البروتستانتية التي تهتم بمباهج الحياة أقرب للرأسمالية من الكاثوليكية "الأكثر انفصالاً عن العالم"، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
وهكذا، لم تكن الرأسمالية والمسيحية في صراع، إذ جادل فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" (عام 1905) بأن "الروح" الأوّلية للرأسمالية ربما لم تكن نفسها مسيحية، لكن المسيحية البروتستانتية وعلم اللاهوت الكالفيني حفزا صعود الرأسمالية الحديثة، وكانت الرأسمالية متوافقة تقريبًا مع الممارسات المسيحية، ومع ذلك لاحظ فيبر أن هذه الروح ابتعدت بالفعل عن جذورها الدينية.
السوق الحرة
لكن ما نراه في العقود الأخيرة يتجاوز ملاحظات فيبر حول الميل البروتستانتي لإضفاء قيمة كبيرة على الاعتماد على الذات والمشاريع التجارية الخاصة، بحسب المؤلف، فالصلات الحديثة بين الدين والاقتصاد أثارت تفكير فريدريش فون هايك، والد الاقتصاد النيوليبرالي. وبالنسبة إلى هايك، سيكون كل من الاقتصاد والمجتمع بشكل عام أكثر تنظيمًا لو اتبعا مبادئ السوق الحرة، وأصبحا غير مثقلين بتدخل الدولة أو حتى السياسيين والأيديولوجيين.
وهكذا، دعمت النيوليبرالية أفكار "التقليدية الاقتصادية" -بعد عقود من تأثير الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان- وأصبحت التيار السياسي السائد الذي شكلته رئيسة وزراء المملكة المتحدة مارغريت تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغان في الثمانينيات من القرن العشرين، حيث دافعت عن تحرير الاقتصاد وخصخصة أصول الدولة وتحرير التجارة. بعد ذلك، لاحظ علماء الاجتماع الهيمنة المتزايدة للأفكار النيوليبرالية إلى مجالات الحياة غير الاقتصادية، حيث يمكن رؤية تفوق قيم المنافسة، والتسويق، والتسليع في مجالات التعليم والرعاية الصحية، على سبيل المثال.
ويقول المؤلف، إننا نشهد حاليا ما تسميه العالمة السياسية ويندي براون "تحويل جميع مجالات الحياة البشرية لمجال اقتصادي" أو إدخال الاقتصاد في كل مناحي الحياة.
لقد أصبح من الصعب بشكل متزايد مقاومة أفكار القيمة والكفاءة المصاغة بمصطلحات نيوليبرالية. بمعنى أنه في الدول الرأسمالية الغربية، اكتسبت السوق الحرة المكانة التي كان يتمتع بها الدين ذات يوم، والتي عوملت على أنها بديهية وحتمية، كما لو كانت "ظروف السوق" نتيجة حتمية وطبيعية للتقدم البشري وأصبحت السوق الحرة أكثر الوسائل فعالية لتحديد الهوية والقيمة.
ويتابع المؤلف القول إن منطق الليبرالية الجديدة له تأثير عميق على حياتنا، وأحيانًا يكون هذا التأثير عبر امتصاصه في الحركات الدينية نفسها.
الشركات الأميركية والمسيحية
يمكن العثور على بعض الأمثلة الأكثر لفتًا للانتباه بين اليمين المسيحي الأميركي، الذي نجح في دمج المسيحية المحافظة مع الأولويات الاجتماعية والاقتصادية اليمينية.
وفي كتابه "أمة واحدة في ظل الإله: كيف اخترعت الشركات الأميركية أميركا المسيحية؟"، يتتبع المؤرخ كيفن كروس أصول هذا الفهم إلى الصناعيين في الثلاثينيات، حيث كافحت الشركات من أجل الحفاظ على صورة عامة إيجابية في ظل الانهيار المالي والكساد الكبير، ووجد أبطال المشاريع الخاصة أنفسهم منبوذين من قبل المؤسسة السياسية، حيث أسس الرئيس روزفلت "الصفقة الجديدة" أي دولة الرفاهية التي تهدف إلى كبح تجاوزات التمويل الخاص.
لقد رأى الصناعيين ميزة في التفاهم مع قضية الزعماء المسيحيين الذين كانوا متشككين أيضًا من الإدارة الديمقراطية و"جماعيتها" الظاهرة.
كان هذا التحالف -المدعوم بموارد مؤسسية كبيرة- هو الذي روج لمزيج "الدين والحرية والمشاريع الحرة"، كما لو كان كل واحد منها مرادفًا للآخر. كما يوضح كروس تم تقديم المسيحية والمشروع الرأسمالي ليس فقط على أنهما متوافقان، ولكن بوصفهما رفقاء طبيعيين.
وفي هذا التلاقي الفكري المسيحي والرأسمالي، تم استخدام التعاليم المسيحية لإضفاء الشرعية على رأسمالية السوق الحرة، في حين تم تقديم الضرائب الفدرالية أحيانًا على أنها انتهاك للوصية الدينية المسيحية (في الكتاب المقدس) ضد السرقة.
ولا يزال شعار "الإيمان والحرية والمشاريع الحرة" واضحًا بشكل كبير في القرن الـ21، ليس أقله بين العديد من المسيحيين الأميركيين الذين يرون في الرئيس السابق دونالد ترامب حاملًا مناسبًا لمشروعهم، بحسب المؤلف.
وبينما يشير سِجل ترامب الحافل إلى ارتباط عميق بمسائل الإيمان، لم يكن، كرئيس، غريبا عن مغازلة اليمين المسيحي لتحقيق غاياته السياسية. وربما ليس من المستغرب أنه ادعى أنه "معلمه" نورمان فنسنت بيل، القس المقيم في نيويورك ومؤلف كتاب "قوة التفكير الإيجابي"، المعروف لدى منتقديه باسم "بائع الإله" بحسب المؤلف.
وفي بعض الدوائر المجتمعية الأميركية، فإن إظهار صفات رجل الأعمال الرأسمالي لا يتوافق فقط مع المسيحية؛ وإنما يصبح وسيلة لتعزيز خطة الإله للعالم.