من 1154هـ إلى 1176هـ.. سيرة الناس والأحداث الاجتماعية الدمشقية بقلم الحلاق المؤرخ
شهدت دمشق في الأعوام التي أرّخ لها شهاب الدين الحلاق مجموعة من الظواهر الاجتماعية الدخيلة والهجينة على المجتمع الشامي، والتي أشار إليها الحلاق في معظم سنوات تأريخه الممتدة إلى 23 عاما؛ من 1154هـ إلى 1176هـ (1741-1762م).
داري زمانك إذا ما صرتَ في دوله واحذر غرورك ولا تغتر في الصوله
الدهر يومان فأكثر من قولك لا حوله يرتاح بالك ويبقى الفعل للقدير المولى
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل المغفرة من شيم الضعفاء؟.. "الفضلاء" لياسمينة خضرة تروي حكايات التجنيد الإجباري للجزائريين في الجيش الفرنسي
الحمية الغذائية قناع للتنافس السياسي.. الفلسفة “النباتية” في نصوص الشيرازي والمعري
ديار بكر.. 27 قبرا منسوبا للصحابة و33 حضارة متنوعة على ضفاف نهر دجلة
هذا المقطع من شعر المواليا (ِشعر شعبي مُغنّى) أدرجه شهاب الدين أحمد بن بدير الحلاق في أثره الوحيد "حوادث دمشق اليومية من 1154هـ إلى 1176هـ" بعد إعدام دفتردار ولاية دمشق الشام (بمنزلة وزير المالية) فتحي أفندي بأمر من واليها أسعد باشا العظم، لما كان الدفتردار "فاسدا وظالما غشوما، وبغيضا لأهل الشام"، حسب الحلاق.
هذا المزج بين القصائد الشعبية واللغة العربية الفصيحة والمحكية السورية الشامية من جهة، وتنوع الأحداث المؤرخ لها ما بين السياسية والمعيشية والاقتصادية والدينية من جهة أخرى، إلى جانب حذاقة المؤلف وحياده السياسي وعلمه الديني وانخراطه في المجتمع من خلال مهنته (الحلاقة)؛ هو ما جعل كتاب شهاب الدين بن بدير واحدا من أبرز الكتب التاريخية عن السلطنة العثمانية في بلاد الشام، وأكثرها موضوعية، وأقربها إلى الناس وهمومهم آنذاك.
وصدرت حديثا طبعة جديدة ومنقحة لكتاب الحلاق عن دار نينوى بدمشق، مصحوبة بدراسة وتحقيق أنجزهما الباحث السوري الدكتور فارس العلاوي، تلافى فيهما نقوصا وتعديلات كان أجراها الشيخ محمد سعيد القاسمي في طبعة المكتبة الظاهرية (1959).
واستند الباحث في هذه الطبعة إلى النسخة الأصلية للكتاب، التي عثر عليها قبل 3 سنوات في مكتبة شيستربيتي الأيرلندية في مجلد رقم 3551، وجاء الكتاب في 530 صفحة من القطع الكبير.
بنات هوى وفقر وأوبئة
شهدت دمشق في الأعوام التي أرّخ لها شهاب الدين الحلاق مجموعة من الظواهر الاجتماعية الدخيلة والهجينة على المجتمع الشامي، والتي أشار إليها الحلاق في معظم سنوات تأريخه الممتدة إلى 23 عاما؛ من 1154هـ إلى 1176هـ (1741-1762م).
وكانت ظاهرة ازدياد أعداد بنات الهوى في شوارع دمشق وأزقتها أكثر ما أثار حفيظة الحلاق، إذ قال واصفا تلك الظاهرة "إنهن أصبحن يملأن الأزقة والأسواق بالليل والنهار"، و"كثر الفساد وزادت الأحقاد".
وفي يوم من الأيام كان قاضي دمشق يريد الدخول إلى منطقة الصالحية، فصادف امرأة تدعى سلمون "وهي تعربد في السكة سكرانة" فأمرها حراس القاضي بالابتعاد، ولكنها أبت ضاحكة، وعوضا عن ذلك هاجمت القاضي بسكين وكادت تودي بحياته لولا تدخل الحراس لإبعادها.
فاستشاط القاضي غضبا، وأقام ديوانا جمع فيه كلا من الوالي والمتسلم وباشوات الشام، وأصدر المفتي فتوى بقتل سلمون، وأقام القاضي الحجة عليها، "وفتشوا عنها وقتلوها"، ثم أمروا المنادي أن ينادي "إلى كل من رأى بنت هوى من بنات الخطا فليقتلها ودمها مهدور"، وهكذا راحت بنات الهوى تخرج من دمشق فرادى وزرافات، كما جاء في رواية الحلاق.
ويسلط الحلاق في كتابه الضوء على ظاهرة الغلاء التي كانت تعصف بالأسواق في معظم الأوقات، ويرى الباحث فارس العلاوي في مقدمة بحثه أن الغلاء كان مردّه إلى جملة أسباب، فمنها فساد بعض المسؤولين في المناصب الحساسة في الولاية كالمتسلم (منصب نائب الوالي) الذي كان يقبل في بعض الأحيان الرشى من شيوخ الكارات (المهن والصنعات) والتجار لرفع ثمن السلع الأساسية كالخبز واللحم، ومنها ما هو طبيعي مثل شح الأمطار أو تساقط الثلوج وتلف المحاصيل.
كما شهدت البلاد في تلك السنوات انتشارا كبيرا للأوبئة والأمراض كالطاعون والجدري والحميرة، وحسب الحلاق فإن طاعون سنة 1173هـ كان الأكثر فتكا بأبناء مدينة دمشق، حيث استمر 7 أشهر وتسبّب في موت كثيرين.
وفي ذلك يورد الحلاق "وكان ابتداء الطاعون من شهر جمادى الآخرة، واستقام في الشام في رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة ونصف ذي الحجة، وصار فيه موت ما رُئيَ في عهد فناء الغراب".
ويذكر الحلاق أنه في 29 و30 من شهر رمضان المبارك كان يخرج من أبواب دمشق كل يوم ألف جنازة من ضحايا الطاعون.
دمشق الشام في ظل حكم أسعد باشا العظم
تولى أسعد باشا ابن إسماعيل العظم ولاية دمشق الشام في السابع من شوال سنة 1156هـ (1743م)، واستمرت ولايته حتى أواخر سنة 1170هـ (1756م) وذلك ما جعله أكثر الولاة حكما للولاية لمدة 14 عاما، وشكلت تلك المدة معظم الحقبة التي أرّخ لها شهاب الدين الحلاق.
وكانت من أبرز المناسبات والأحداث التي ذكرها الحلاق، سردا ووصفا، مناسبة دخول أسعد باشا العظم دمشق، وفي ذلك قال الحلاق "في يوم السبت 25 شعبان المبارك دخل أسعد باشا العظم إلى دمشق، وكان دخوله من مسد القصب، ولاقت له الإنكشارية وأكابر دمشق، ودخل بموكب عظيم ضحوية النهار".
وكانت سنة وصول الوالي الجديد سنة خير على الدمشقيين فكان "الزمان معتدلا، والبلد أمن وأمان، وخير وإحسان، ولم يصر مَحَل ولا جراد ولا قلة مطر".
إلا أن هذا الحال لم يدم طويلا، ففي سنة 1159هـ (1746م) اشتدّت شوكة مجموعة متمردة من الإنكشارية في دمشق وصارت لها "صولة وجولة" في كل الشؤون المعيشية "فزاد هم الناس وغابوا عن الحواس، وباعوا الأملاك والأعراض واللباس، وزاد الأمر عن حد القياس"، فأغضب ذلك أسعد باشا ودفعه إلى التحرك من أجل القضاء على تلك المجموعة المتمردة، مستعينا بـ400 مقاتل من الدالاتية (فرقة عسكرية غير نظامية)، هاجموا مقار الإنكشاريين في سوق ساروجة الدمشقي وأحرقوا منزل أحد قادتهم وهو أحمد ابن القلطقجي، ولم تنته المعركة إلا بحلول المساء وقد أضرمت النار بمعظم دور الإنكشارية وهرب زعيمهم القلطقجي.
ولما أراد أسعد باشا استكمال معركته مع الإنكشاريين في حي الميدان وسط البلاد، سمع الإنكشاريون الخبر ولم يبق منهم أحد، حتى زعيمهم مصطفى آغا ابن خضري، فدخل الدالاتية الحي وأحرقوا الدور ونهبوها، ويقدر الحلاق عدد البيوت المنهوبة يومذاك بـ500 دار.
وإلى جانب تلك الحادثة، عرفت دمشق الشام بعض الاضطرابات الداخلية والخارجية، وكان أبرزها صراع الوالي الطويل مع سكان البقاع من الطائفة الدرزية، الذي انتهى بشن الوالي هجوما شرسا على قراهم ودورهم في جمادى الأولى من عام 1160هـ (مايو/أيار 1747م) فأحرق ما أحرق منها، وقتل من قتل من سكانها، وحصد زرع الدروز.
واهتم أسعد باشا بالعمارة والبنية التحتية للمدينة، فشيَّد قصرا مهيبا مواجها للجامع الأموي في دمشق سنة 1164هـ (1751م)، ويُعرف اليوم هذا المبنى باسم قصر العظم، وهو أحد أهم المعالم السياحية في المدينة.
وأمر الوالي بشق طريق "باب الله" الذي وصل بين باب مصلى وباب الله وسط المدينة سنة 1165هـ (1752م)، وقام في العام نفسه ببناء قصرين وإيوان ومشارق ومنافع في ضريح السيدة زينب بشرق دمشق، وفي سنة 1168هـ (1755م) أمر الوالي بترميم الجامع الأموي وسط المدينة القديمة "واشترى له طنافس بأربعة آلاف قاصدا وجه الله تعالى".
وفي سنة 1170هـ (1757م) عُزل أسعد باشا العظم عن ولاية دمشق الشام وعيّن واليا على حلب، ومنها تقرر نقله إلى ولاية مصر، فرفض أهل حلب القرار، وأصروا على أن يبقى أسعد باشا واليا عليهم، وذلك ما حرض الدولة عليه.
ركب الحج الشامي
أولى الحلاق المناسبات الدينية أهمية كبرى في كتابه، لما تشغله من مكانة عند سائر الدمشقيين، وكان ركب الحج الشامي من أهم الأحداث الدينية السنوية في "حوادث دمشق اليومية"، ويرى الباحث العلاوي أن اهتمام الحلاق بركب الحج ربما يعود لكون الوالي أميرا لركب الحج والمشرف عليه منذ خروجه من المدينة إلى حين عودته إليها.
وكان الوالي ينتظر وصول التكليف بإمارة الركب سنويا، وفور وصوله تبدأ مراسم التحضير لسير الحجاج، وغالبا ما يكون السير في شهر شوال بعد عيد الفطر من كل سنة بعد وصول ركب الحج الحلبي إلى دمشق.
غير أن رحلة ركب الحج الشامي إلى الأراضي المقدسة لم تكن يسيرة دائما، فيسرد الحلاق العديد من المعوقات التي اعترضت طريق الركب، والعديد من الاعتداءات التي أودت بحياة الآلاف من الحجاج.
ويذكر الحلاق في أحداث سنة 1156هـ (1743م) واقعة غرق ركب الحج في طريق عودته من الأراضي المقدسة في منطقة الحسا شرقي السعودية، ويصف ذلك مدوّنا "ذهب مقدار نصف الحاج من خيل وجمال وبغال ونساء ورجال ومال وأحمال" وأن عدد من هلكوا في تلك الواقعة كان 1900 من الحجاج.
وفي ذلك اليوم استنجد الناجون من الحادثة بالوالي سليمان باشا العظم زاده، أمير الركب الذي كان يتقدمهم بمسافة ليستعيد شيئا من أحمالهم، فعاد الوالي وبعض من رجاله إلى محل الواقعة "وغاب عن الحاج يوما وليلة، وقد افتقده أهله والعشيرة (..)، وخاب الأمل، وبينما هم في ذلك الحال، وإذا سليمان باشا قد أقبل ومعه الأحمال، وهي محملة على جمال، وكان ذلك من غاية السعد والإقبال"، كما يروي الحلاق.
وإلى جانب الغرق بالسيلة من الرمال، كان يتعرض ركب الحج الشامي لاعتداءات من العرب البدو في طريق عودتهم كما حدث في سنة 1166هـ (1753م) حيث وقعت "مقتلة عظيمة" بين العرب وحراس الجردة (حراس الحج وأحمال الأطعمة)، وراح ضحيتها عشرات من الجانبين.
وعندما تصبح قوافل الحجاج على بعد 7 أيام من الوصول إلى دمشق، يكون الجوقدار (رسول أمير الحج) أول الواصلين إلى المدينة، إما ليبشر الأهالي بعودة الحجاج سالمين أو لطلب النجدة في حال حدوث أي مكروه.
وبعد الجوقدار يدخل الكتّاب (كتّاب رسائل الأمير والحجاج أثناء الرحلة)، وبعدهما يدخل الحجاج إلى المدينة، وآخر الواصلين يكون أمير الحج والوالي معلنا نهاية الرحلة التي تمتد من 3 إلى 5 أشهر.
وانعكست شخصية شهاب الدين الحلاق على أسلوبه في التأريخ والمواضيع التي تناولها، فلم تقتصر على الأحداث المعيشية والسياسية والدينية، بل امتدت لتشمل أيضا بعض الزوايا الأدبية من أدعية وأشعار قد سمعها في تلك السنوات، إلى جانب التراجم (بطاقات التعريف) التي قدمها للتعريف بكبار الشخصيات من علماء وأكابر وشيوخ "كارات" في دمشق، ويرجع الفضل للحلاق أيضا في معرفة تواريخ وفاة كثير من تلك الشخصيات التي كان يذكرها مترحما عليهم مبينا حسناتهم في سنوات تأريخه.