في الذكرى الـ97 لقصفه.. سوق العريقة الذي غيّرت مدافع فرنسا اسمه إلى سوق الحريقة
يذكر المؤرخ السوري محمد أديب تقي الدين الحصني في كتابه "منتخبات التواريخ لدمشق"، أنه لم يبق من المدينة إلا "الهياكل والأطلال"، وأن القصور والمنازل الدمشقية العريقة في حي سيدي عامود صارت أثرا بعد عين.
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ .. ودمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي .. إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ
اقرأ أيضا
list of 4 itemsبعضها يتحدثها 20 شخصا وأكثر من نصفها في بلد واحد.. تعرف على اللغات المهددة بالانقراض في 22 دولة عربية
مجموعة هداليش وقصص أخرى.. حكايات الغربة بين الداخل والشتات
“خربة الشيخ أحمد”.. سيمفونية “الشوايا” وتوثيق تاريخ شرق الفرات روائيا
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي .. جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ
كانت تلك هي الأبيات التي ألقاها أمير الشعراء أحمد شوقي، وغناها لاحقا الموسيقار محمد عبد الوهاب في رثاء دمشق، في إثر النكبة الكبرى التي تعرضت لها على يد الاستعمار الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي.
في عصر يوم الأحد 18 أكتوبر/تشرين الأول 1925 والناس وادعة في بيوتها، كانت المدينة -ذات التاريخ العريق الممتد إلى 11 ألف عام- على موعد مع نكبتها، فأمطرت سماؤها وابلا من قذائف المدفعية الفرنسية المنصوبة على جبل المزة غربي المدينة، قصف استمر 3 أيام متواصلة أحرقت خلالها قوات الاستعمار عشرات الأحياء والأسواق الدمشقية.
وجاء هذا القصف العنيف ردَّ فعل على دخول 400 ثائر عربي إلى المدينة بقيادة الزعيم حسن الخراط، وتطويق الخيالة المسلحة القادمين من جبل العرب بقيادة الزعيم الدرزي رمضان شلاش أحياء المدينة القديمة، وتأييد الأهالي للثوار.
هُدمت في ذلك اليوم متاجر المدينة، وأُحرقت منازلها، ودُمرت الأحياء القديمة بقصورها العريقة، وسقط يومها ما يزيد على 1500 شهيد، بحسب الصحافية والمؤرخة الفرنسية أليس بولو.
وكان لحي سيدي عامود وسوقه العريقة الواقعين وسط المدينة النصيب الأكبر من القصف في ذلك المساء، فالتهمت النيران معظم بيوته ومحاله. لكن ما هي إلا أيام حتى أعاد الدمشقيون ترميم حيهم وسوقهم، ليطلق عليه اسم "حي الحريقة".
عندما تحولت المدينة إلى هياكل وأطلال
"كان المدفع يطلق حممه بفواصل زمنية متقاربة، وكانت القنابل تتابع ونرى تصاعد عمود من الدخان الأصفر يرتفع في السماء مهددا متوعدا، وها هما الآن عامودان، ثلاثة، أربعة أعمدة ترتفع خلال أشعة الشمس التي بدأت تغيب عن المدينة (..) وبدت الجبال على شكل مُدَرَّج تأخذ طابعا وحشيا معاديا ينسجم مع مظهر المدينة المُقاتلة".
تلك هي المشاهدات التي ترويها الصحفية الفرنسية أليس بولو في كتابها "دمشق تحت القنابل" (1926)، الذي أرخت بين طياته لأحداث الثورة السورية الكبرى بين عامي 1925و1926 من منزلها في حي الصالحية الدمشقي.
وتروي الصحفية أنه من بين تلك الأعمدة من الدخان، كان دخان قذيفة يتصاعد من قبة حمام الملكة التراثي في حي سيدي عامود، وأن الحريق قد التهم الحي كاملا بما في ذلك ضريح الولي الصالح سيدي أحمد عامود، الذي سمي الحي تيمنا به.
وتحكي بولو أن الحريق استمر على مدى يومين متواصلين، وبدت المدينة على إثره "كومة حطب مشتعلة"، والتجأ بعض سكان دمشق المنكوبين -من المسيحيين والمسلمين- إلى البطريركية الأرثوذكسية في باب توما، بينما احتشدت عشرات العائلات المُهجرة في منازل ضيقة هربا من سعير النيران.
وظل "دخان الحرائق ينبعث من هنا وهناك" بعد أسبوع من توقف القصف، وكانت قباب ومآذن جامع الدرويشية في الحي قد دمرت بالكامل، إلى جانب المخازن التي احترقت بكل ما فيها من بضائع.
ويذكر المؤرخ السوري محمد أديب تقي الدين الحصني في كتابه "منتخبات التواريخ لدمشق" (1979)، أنه لم يبق من المدينة إلا "الهياكل والأطلال"، وأن القصور والمنازل الدمشقية العريقة في حي سيدي عامود صارت أثرا بعد عين.
لكن بعد مضي 15 يوما على الحريق الكبير، كانت بولو تقطع المدينة في جولة استطلاعية، لتفاجأ الصحفية الشابة بأن الأسواق والأحياء قد أعيد بناؤها بالكامل، وعاد التجار إلى أعمالهم وأرزاقهم وملؤوا محالهم برفوف جديدة، حتى أن "أي إنسان كان ليشك بحقيقة وقوع المأساة".
حي سيدي عامود عبر التاريخ
اكتسى حي سيدي عامود خلال عهد السلطنة العثمانية أهمية كبرى بالنسبة للدمشقيين، حيث احتضن البيمارستان النوري، وهو واحد من أهم المستشفيات ومدارس الطب في العالم الإسلامي، قبل أن يتحول لاحقا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني إلى مدرسة، ثم إلى متحف للطب والعلوم.
كما زين الحي حمام الملكة الذي شيّد في عهد الوالي عثمان باشا الأرملي على الطراز الدمشقي الأصيل، وهو حمام واسع يضم غرفة مقببة مزركشة من الداخل بالنقوش، وتتدفق المياه إليه من شبكة مياه ترجع إلى العهود الكلاسيكية كما ذكر المستشرق البريطاني جورج ولتسينغر.
واشتهر السوق في حي سيدي عامود ببيع المنسوجات والأجواخ (نوع من القماش) والخيوط الصوفية والحريرية في العهد العثماني، وكان يقصده سكان السلطنة من مختلف الولايات لشهرته وجودة بضائعه، بحسب المؤرخ قتيبة الشهابي في كتابه "معجم دمشق التاريخي".
وشيد والي دمشق سليمان باشا العظم، خلال فترة ولايته الأولى عام 1151 هـ (1738م)، دارا بديعة فسيحة في حي سيدي عامود، كما شيد بالقرب منه ما صار يُعرف لاحقا بخان سليمان باشا العظم، وهو ثاني أكبر الخانات في دمشق، وضم آنذاك محال تجارية ومستودعات وغرفا للنزلاء.
ولاحقا أصبح الحي مكان إقامة للعديد من القادة والسياسيين السوريين، كان أبرزهم الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي (فترات متباعدة بين عامي 1943 و1958)، وتحديدا في دار القوتلي التراثية التي شيدها مراد أفندي القوتلي في عهد السلطنة العثمانية بين عامي 1865 و1872 منفقا عليها مبالغ باهظة، وعلى الرغم من أن الدار احترقت مع نشوب الحريق الكبير لكن سرعان ما أعاد الدمشقيون ترميمها.
وتاريخيا، أقام في الحي الكثير من أشراف وتجار دمشق الأثرياء، فاحتوى على نفائس العمارة الدمشقية من قصور ومنازل تراثية عريقة، احترق جلها في تلك الواقعة وأعيد بناؤها بطراز حديث.
سوق الحريقة اليوم
اشتهر الحي وسوقه بعد واقعة قصف قوات الاستعمار الفرنسي له في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1925، باسم حي الحريقة، وثبت هذا الاسم في مصنفات بلدية دمشق خلال فترة ما بعد الاستقلال.
وما يزال الحي إلى يومنا هذا محافظا على طابعه التجاري، حيث تنتشر مئات المحال التجارية على جانبي شارعه الرئيسي وبين أزقته، ويضم سوقا واسعة للأقمشة والمفروشات، إلى جانب العديد من محال الصرافة والخدمات السياحية، واتخذت الحكومة من ساحته مقرا لمبنى مصرف التسليف الشعبي.
ويحكي أبو نادر -وهو تاجر أقمشة أبا عن جد في سوق الحريقة- للجزيرة نت أنه "مع أن للسوق زبائنه الدائمين في جميع المواسم خلافا لغيره من الأسواق في دمشق، لكن كان للعقوبات الاقتصادية على سوريا بعد الحرب أثر عليه، حيث عرض العديد من أعرق وأقدم تجار السوق محالهم للبيع بعد الخسارات المتلاحقة التي لحقت بهم".
ويضيف "وإذا بقيت الحال على ما هي عليه، فسيكون محلي أيضا معروضا للبيع".
وبالرغم من الركود الذي تشهده بعض التجارات في السوق، فإن أعداد التجار في سوق الحريقة ما تزال تقدر بالآلاف، نظرا لموقعه الحيوي إلى جانب سوق الحميدية ومدحت باشا، وقربه من المباني الحكومية.