مجموعة هداليش وقصص أخرى.. حكايات الغربة بين الداخل والشتات
"سأسأل أهل هذه المدينة عن رائحة الخبز الساخن! سأسألهم عن معنى النوم دون أن تنتظر طارقا! عن القصيدة التي قتلت صاحبها، عن حروف الهجاء المُسالمة! عن الجزيرة التي تقع ما وراء الشمس، ودروب الذُبان الأزرق، وهل ما زالت الرحلات لهما متوفرة؟ هذه بعض من حكاياتي نشرتها على حبل غسيل أوجاعي، وتستمر أسئلتي".
هذه هي العبارات التي يختتم بها القاص والروائي السوري موسى رحوم عباس مجموعته القصصية "هداليش وقصص أخرى"، التي استعاد بين طياتها ذكريات طفولته وشبابه في الجزيرة السورية (إقليم في شمال شرق سوريا وهي المنطقة الواقعة ما بين نهر الفرات ونهر دجلة وتسمى الجزيرة السورية)، فكانت الذكريات مبعثا لأسئلة كبرى، حتى لتبدو القصص في المجموعة كمحاولة للإجابة عنها عبر ثنائيات مكانية (الوطن/ الشتات) وزمانية (الحاضر/ الماضي) وهُوياتية (محلي/ مغترب)، فيحكي عن الماضي والحاضر على لسان أبطاله المثقلين بالهموم والحنين والانكسارات، وعن البلاد التي قذف حكامها بأبنائها إلى المنافي، وعن المدن الباردة في بلدان الهجرة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالأديب التونسي محمد علي اليوسفي: “ألف ليلة وليلة” ألهمت كتاب أميركا اللاتينية
"بيت من ألوان" لمحمود شقير.. قصص متناسلة من عذابات الأحذية المشرّدة
"السيدة روينا وغرفة الأشياء الضائعة" وحكايات أخرى.. العجائبية في قصص الفنانة السورية سعاد الجندي
وامتدت المجموعة -الصادرة حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (عمان)- إلى 25 قصة و180 صفحة من القطع المتوسط، وتضمنت مجموعة من اللوحات التشكيلية للفنان السوري حسن حمام، وجاءت كل لوحة من تلك اللوحات في تعبير تشكيلي عن مضمون القصة الأدبية.
هجرة البدوي
يغدو الفضاء المكاني في المجموعة -مع تتالي القصص- كمُسْتَلهم للدفقات الشعرية التي تبعثها الذاكرة في السرد النائس بين ثنائيات الأمكنة: البادية/ المدينة، الوطن/ الشتات، ليمثل التضاد بين تلك الثنائيات هاجسا أساسيا عند الكاتب، ومحورا بنائيا تنهض عليه القصص، فالفرات والوطن من جهة والمدينة والشتات من جهة أخرى كعالمين منفصلين لكل منهما مجاله ونظامه وحدوده.
وهو ما نقف عليه في قصة "الباب"، حيث يهجر أبناء البادية صحراءهم ويتخلون عن عاداتهم، لكن طرقات المدن تضيق بأقدامهم وتشردهم الوجوه وكثرة الجهات والعمارات الضخمة، فنجد رب العائلة وقد "ابتنى فيلا صغيرة في المدينة تضم حديقة لا تخلو من النباتات الشوكية التي تحتمل العطش رغم توفر المياه، وقد ثبت بعض رؤوس الغزلان في جدار مجلسه" كمحاولة منه لجعل إسمنت المدينة أكثر ألفة.
ومع ذلك يبقى الأب أسيرَ حنينه الطاغي إلى تلك الأيام في البادية، حيث الرمال تستحيل فراشا لجسده، والدحول تفتح له صدورها، وجذوع الغضا بجذوتها المتقدة تقيه برد الليالي في الصحراء.
أما في المدينة فلم يجد الأب من عزاء له سوى "حمس" ودقّ القهوة، وتزيين حديقته بالنباتات الشوكية الصحراوية، وتعليق رؤوس حيوانات كانت ترعى فوق تلك الرمال البعيدة.
ومع التقدم في القصة، نجد البدوي الشجاع الماهر برمي السهام والقتال بالسيوف يقف عاجزا أمام أسلحة الحضر الحديثة، فيلقى الأب مصرعه بطريقة كوميدية سوداء بعد ارتطامه "بباب" الملحق الذكي في الفيلا، وهو يحاول الولوج عبره غير مدرك أن الباب يفتح عبر البصمات الصوتية لصاحبه.
وفي قصة "الرجل ذو الشعر الرمادي"، يخاطب الكاتب شخصيته مذكرا إياها ساعة كان "يلاحق الفراشات التي تفر من بين يديه إلى حقول القطن، ولا يطفئ ظمأه إلا الفرات بمياهه الحمراء في فصل الفيضان وما يحمله من طمي يكسو به ضفتيه".
فيعود به إلى عالم الطفولة في البادية السورية التي أصبحت نسيا إثر انتقاله إلى المدينة، ولما أصبح صاحب الشعر الرمادي كهلا نراه يسير مبتسما ابتسامة عريضة في شوارع جنيف، التي تكشف أضواؤها عتمات تبذر بروح الرجل بذارها المريرة.
وهكذا نجد الرجل رمادي الشعر، بابتعاده عن قريته ووطنه وانتقاله إلى تلك المدن القصية مسافة وقيما ومعان، لم يرث إلا القيود والصور النمطية، فها هو الطفل الذي كان "يركض حافيا في دروب قرية تجاهلتها الخرائط، والعشب اليابس الموحل يلتف حول قدميه" أصبح مضطرا بعد هذه العقود أن يأخذ بنصيحة الكاتب "لا تنس الابتسامة العريضة، واحرص على الملابس الشفافة التي تبعث على الاطمئنان بأنك غير مسلح وغير ملتح، ولا تحط خصرك بأي حزام ومن أي نوع".
وعن هذه الثنائية التي احتلت حيزا واسعا من قصصه، يقول عباس للجزيرة نت "تجولت في قارات العالم وبلدانه، وزرت المدن التي أحلم بها من لوس أنجلوس إلى جنيف ولندن وباريس وأثينا والقاهرة والرياض وإسطنبول، والآن أعيش قريبا من ستوكهولم، إلا أنني كلما أسلمت رأسي إلى الوسادة أراني أتجول في شوارع الرقة وحاراتها، ببساطة لم أصدق بكذبة العالمية، لأنني آمنت أنها تعني أن تكون محليا أولا".
الاغتراب المزدوج
لم يبتعد موسى عباس في قصة "نديم الصمت" عن الموضوع العام لمجموعته، فجاسم علاوي (الشخصية الرئيسية في القصة) أيضا يعيش اغترابا من نوع خاص، إذ لم يتمكن من العيش حياة طبيعية لا في وطنه ولا في دولة لجوئه، حيث قضى حياته القصيرة شاعرا بالعزلة والهامشية الاجتماعية، ففي كلية الطب البشري في وطنه نعته الطلاب والأساتذة بـ"عدو المجتمع" لأنه عجز عن ممارسة السلوكيات الاجتماعية الاعتيادية، إضافة لقضائه جل وقته صامتا.
وبعد نشوب الحرب في بلاده، غادر علاوي سوريا ظانا أنه على مشارف حياة جديدة سعيدة في ألمانيا، لكن المفاجأة كانت بتعيينه هناك طبيبا في "القبو الثاني" أي براد الموتى، حيث عاد إلى عزلته وهامشيته وصمته في عمله الجديد "حارسا للأموات" متصفحا ملفاتهم التي -على بؤسها- كانت سلوته الوحيدة.
وبمرور الوقت، تستبد بعلاوي مشاعر الأسى والإحباط، فنفسه ضائعة وروحه قلقة مشبعة بالغربة من الوطن إلى المنفى، مما يدفعه في إحدى الصباحات الباردة إلى خلع ملابسه وتعليق رقم على إصبع قدمه كالذي يوضع على أقدام الموتى، ليستلقي بعد ذلك في أحد الأدراج مغلقا الباب عليه، وكأن حياته التي قضاها صامتا مغتربا لا تختلف كثيرا عن الموتى في البرادات.
وعن هذه الشخصية، يقول عباس "الطبيب المغترب جاسم علاوي حمل معه حروبه النفسية، واستمر خيط الدم يلاحقه حتى ألمانيا، فلم يجد من وظيفة سوى حارس للجثث أي طبيب مشرحة، فهل يسمع الأموات أنينه؟ إنه من خلال قراءة ملفات أصحاب الجثث يكتشف القواسم المشتركة للبشر المقهورين في كل مكان، وهذا وجعي بصفتي كاتبا وإنسانا".
ويمثّل علاوي نموذجا لكثير من السوريين الذين خبروا اغترابا مزدوجا، أحدهم داخلي عاشوه في وطنهم نتيجة الفساد والقمع وانسداد الآفاق المستقبلية، وآخر خارجي في بلاد الشتات حيث الحياة أشبه "بساعة معلقة وسط محيط".
وهو حال ضابط أمن المطارات صاحب الرتبة الرفيعة في قصة "القدوم/ المسيرة البيضاء" وهو ينظر لمغادري البلاد نظرة حاسدة، ويتمنى في أعماقه لو أنه واحد منهم متخليا عن رفاهية تلك النجوم المرصوصة على كتفيه.
وبينما يستغرق الضابط في حلمه ويراقب الرحلات الدولية التي على وشك الهبوط (هولندا/ النرويج/ فرنسا)، يفاجئ بمسافرين عائدين من دون حقائب أو أوراق ثبوتية، يسيرون رتلا خلف رتل بعباءاتهم البيضاء، وعبثا يحاول أمن المطارات توقيفهم، غير أنهم يتجاوزون الحواجز ونقاط التفتيش ويمشون صفا واحدا إلى المقابر، فيستلقون فيها وعلى وجوههم ابتسامة لم تكتمل.
وبذلك عبرت شخوص المجموعة عن واقع خبره مئات الآلاف من السوريين، فبلاد المنفى تتحول بأحيائها وشوارعها ومؤسساتها إلى سجن ضيق تحت ضغط وطأة الشعور بالوحدة والقهر، أما الوطن فما من أحد ينجح بتجاوز حواجزه ونقاط تفتيشه والنجاة من بطش سلطاته القمعية سوى الموتى.
وعن هذا الاغتراب المزدوج بين الداخل والشتات، يقول عباس "الاغتراب لا يعني أن تهاجر خارج حدود بلادك وحسب، عندما تموت في اليوم ألف مرة فأنت مغترب، عندما يقتلك الخوف من ظل مخبر فأنت مغترب، اكتشفت في غربتي المتواصلة أننا نحمل آلامنا وجراحاتنا التي لا شفاء منها أنى توجهنا".
العجوز التي هبطت من السماء
يعود عباس في قصة "هداليش" للمجتمع السوري وقضاياه مجددا، فينسج حكاية تطغو فيها العناصر العجائبية والأسطورية على الواقعية، ليصور للقارئ مجتمعا تسوده علاقات زائفة وقيم بالية رسّختها عقود من حكم الاستبداد.
وهداليش عجوز أقرب إلى الجنية، هبطت من السماء، تمشي بسرعة الضوء، يخافها جميع سكان القرية إذ شاع أنها قادرة على قطع الأعناق وسحق الأرزاق بنظرة واحدة منها.
وهو ما يدفع إبراهيم -سائق مسؤول أمني كبير في المدينة- للاستعانة بها للإطاحة بمعلمه، فتلقي "بعينها الحادة" نظرة على قصر هذا المسؤول، لنجده في صباح اليوم التالي وقد أصيب بشلل في أعصاب الوجه وصار فمه ملويا.
وبعد أن فشل الأطباء في علاج المسؤول، عرض إبراهيم عليه زيارة شيخ "مبروك" يعيش في القرية -وهو للمفارقة شقيق هداليش- على أمل أن يشفى، فانطلق الموكب ووصل بيت الشيخ الذي خلع حذاءه وضرب به وجه المسؤول عدة ضربات حتى طُبِعَ أثر الحذاء على وجهه فاستقام حنكه قليلا، ليخرج المعلم راضيا من منزل الشيخ الطبيب.
وعن دلالة هذه القصة العجائبية، يقول عباس للجزيرة نت "في هداليش أشير إلى بنية العقل الأسطوري في الشرق عموما وفي بلادنا خصوصا، حيث تتداخل الخرافة بالسلوك اليومي، والأسطورة بالتاريخ وبالمعاش".
ويضيف "هداليش امرأة عادية لكنها غريبة الأطوار نسج الناس حولها أسطورة جعلت منها كائنا يتمتع بقدرات خارقة، ثم أراد هؤلاء الموجوعون من قهر السلطة وقمعها الانتقام من خلالها من رمز السلطة وأداة قمعها (المسؤول الأمني)، والوسم بالحذاء هو دلالة على امتهان هذا الرمز السلطوي، ومع هذا فهو مقتنع أنه (أي المسؤول) شفي من دائه، واخترت هذه القصة لتكون عنوانا للمجموعة القصصية لكل الاعتبارات التي ذكرتها سابقا".
وينزاح عباس في سرده الاستعاري ومشاهده القصصية عن الطبيعة والمألوف إلى لغة تعتمد على المتخيل والمبالغة والمفارقة لتمزج بين الواقعي والعجيب، مبتكرا عالما قصصيا خاصا، يقوم على تصور عباس عن اللا شعور الذي "يلعب بمخزونه العجيب من صور وأصوات وأحداث وقبح وجمال في تشكيل فنوننا من شعر وسرد وتشكيل، لكنه ليس كل شيء، فالخيال المبدع هو الذي يعيد صياغة هذه المادة الخام ويصيّرها جديدة، يؤلف بينها ويلجم بعضها، ويسد ثغراتها، ويمنحها أفقا واسعا من الأفكار والرؤى".
والجدير بالذكر أن موسى رحوم عباس حاصل على دكتوراه الفلسفة في علم النفس العيادي (السريري)، وعلى إجازة في اللغة العربية من جامعة حلب، وصدر له العديد من الأعمال الأدبية، كان أبرزها رواية "بيلان" (2011).