هل المغفرة من شيم الضعفاء؟.. "الفضلاء" لياسمينة خضرة تروي حكايات التجنيد الإجباري للجزائريين في الجيش الفرنسي
تجري أحداث رواية "الفضلاء" للجزائري محمد مولسهول، المعروف أدبيا باسم ياسمينة خضرة، في حقبة تاريخية لم يسبق للرواية الجزائرية تناولها، لا سيما ما يتعلّق منها بالحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما حدث من تجنيد إجباري للجزائريين في الجيش الفرنسي تنفيذا لقانون التجنيد العسكري الإجباري الصادر عام 1912.
ولم يكن ذلك أول قانون يصدره الاستعمار الفرنسي لإجبار الجزائريين على خوض حروب لا تعنيهم والتضحية بهم في شتى جبهات القتال، إذ كان بحسب العديد من المؤرّخين النهاية الحتمية لمخطط مدروس بدأ عام 1832 بقانون التجنيد الاختياري في فرق المدفعية والخيالة، والذي أُثري عبر النقاشات الشهيرة التي حدثت في الدوائر الحكومية الفرنسية في الفترة الممتدة بين عامي 1855 و1908 بخصوص ضرورة استخدام الموارد البشرية في المستعمرات الفرنسية عند نشوب أي حرب تخوضها فرنسا، وهو ما فعلته لاحقا في جميع حروبها بلا استثناء.
لكن تجنيد الجزائريين في الحرب العالمية الأولى لم ينل حظه من التناول السردي في الأدبين الجزائري والفرنسي، رغم أهميته التاريخية وما ترتب عنه داخل المجتمع الجزائري، سواء على مستوى الحياة العادية للجزائريين أو على مستوى النخبة وتشكّل عقلها السياسي المتحرر، وهو بالذات ما حاولت رصده رواية "الفضلاء"، التي تحكي قصة ياسين شراقة الذي بسبب ظروفه الاجتماعية وطبيعته الطيبة القريبة من السذاجة، يجد نفسه يجنّد مكان ابن "قايد" قريته ويخوض الحرب باسم ابنه ونيابة عنه مقابل وعود لن تتحقق أبدا، بل يتعرض للخيانة والتشريد ومحاولة قتله بمجرد عودته من الحرب.
سفر عبر التاريخ
وهنا يُظهر خضرة براعة استثنائية في تأثيث روايته تاريخيا، ليس كمؤرّخ يتصيّد الوقائع المكتوبة في كتب التاريخ، بل كسارد محترف يحسن نقل القارئ من أجواء الحاضر إلى ماض يجهله تماما، فيجد نفسه منساقا في أحداث الرواية التي سرعان ما تفرض عليه تماهيا مطلقا مع أجوائها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsانتمى لنادي الحشاشين وعاش منبوذا وفقيرا رغم ثروته الطائلة.. شارل بودلير أو “أبو نواس الفرنسي”
الحزن على المستوطنين الراحلين أم الفرح لمن استرد الأرض؟ اعترافات المستعمر الفرنسي في “مهاجمة الأرض والشمس”
بنفوذ الفرنسية في الإدارة والمحيط العام.. هل انتصر التعريب في الجزائر؟
ولعلّ هذا ما أراد قوله الناقد الجزائري الدكتور محمد داود وهو يصف أهمّ ما يميز كتابات ياسمينة خضرا، الذي يعدّ بلا منازع أكثر الروائيين الجزائريين مقروئية في العالم، حين قال للجزيرة نت "إن الكاتب يملك قدرة عجيبة في الحكي وفي تطوير الأحداث، وقد أبرز ذلك من خلال جميع ما كتب، فنصوصه تشد القارئ وتجعله يسايرها إلى النهاية".
قدرة ياسمينة خضرا في شد انتباه القارئ من أول صفحة لا تبررها السلاسة السردية أو زخم الأحداث ومأساويتها فحسب، بل أيضا الجانب البحثي الذي اعتمدت عليه رواية "الفضلاء"، والذي يظهر بلا شك في اختياره للغرب الجزائري مسرحا لروايته، وأيضا في عنايته بالتفاصيل الصغيرة التي سمحت له برسم مشاهد واقعية لا تتصادم مع التاريخ، متجانسة لا نشاز فيها، وهي المشاهد ذاتها التي وظفها توظيفا صحيحا لكتابة رواية تاريخية وليس لكتابة التاريخ بمسحة سردية لا تضيف شيئا للرواية أو للتاريخ.
لماذا الغرب الجزائري بالتحديد؟
بعيدا عن العلاقة الشخصية التي تربط ياسمينة خضرا بالغرب الجزائري، فإن اختياره لهذه المنطقة مسرحا لأحداث روايته لم يكن عفويا، بل بناء على بحث تاريخي واضح منح رواية "الفضلاء" تلك القدرة على الزج بقارئها في زمن ومكان ما كان ليتصور قبل قراءته للعمل أنه سيتهمّ بهما، أو يصدّق أنه لم يشعر بأيّ غرابة تجاه واقع الرواية الذي لم يعشه في الحقيقة.
وهو بحث سمح بنحت غاية في الدقة لشخصيات الرواية والظروف المحيطة بها، فالمتصفح للتاريخ الاستعماري في الجزائر لا بدّ أن يلاحظ تلك المقاومة الشديدة التي عرفها الغرب الجزائري ضد قانون التجنيد سواء على مستوى النخبة أو المواطنين العاديين، من خلال الاحتجاجات أو العمليات المسلّحة والهجرة الجماعية للسكان، عائلات وأفرادا، ولعلّ أشهرها ما يعرف بالهجرة التلمسانية عام 1911 في اتجاه المغرب الأقصى والشام، تعبيرا عن رفضهم للتجنيد الإجباري.
ومثلما اختار خضرا الغرب الجزائري بسبب المقاومة الصارمة لسكانه للتجنيد، فقد اختار هذه المنطقة أيضا بسبب ما عرفته منذ بداية الاستعمار من تفقير ممنهج ومخطط له لسكانها، مستعينا في ذلك ببناء شخصيات سردية لبعض المستوطنين وببعض الجزائريين الموالين للمستعمر كفئة "القياد" التي تتحكم -بفضل ما منح لها من سلطة وامتيازات- في الغالبية المستضعفة من المجتمع لا سيما الفلاحين.
ومن هنا تأتي خيارات الكاتب لشخوص روايته مبررة ومدروسة، رسم من خلالها قصة إنسانية تمتزج فيها المشاعر المتناقضة والعلاقات البشرية، بعيدا عن الأحكام المسبقة والقراءة الصارمة للتاريخ، بحيث سار بالقارئ في سرد خطي جميل اللغة، لم يغامر فيه فنيا أو بنيويا، بل اعتمد كتابة تقليدية صرفة.
لكنه هذه المرة، كما يقول الناقد محمد داود، في هذه الرواية بالذات خرج عن النمطية اللغوية المعروفة لديه في الروايات السابقة، في إشارة للمأخذ الأكبر الذي واجه خضرا في معظم أعماله، والذي كثيرا ما برر به النقاد عدم إدراج اسمه في الجوائز الأدبية الكبرى على غرار الغونكور ورينودو (الفرنسيتين) الشهيرتين، مع أنه مبرر لا يصمد مع بعض ترشيحات هذه الجوائز، والتي هي بلا شك أقل مستوى لغويا وأدبيا من أعمال محمد مولسهول.
بين الصفح والاستكانة والرضا
وعلى عكس المتوقع من روايةٍ تتناول حقبة ظلمٍ خالص، لم يختر صاحب "فضل الليل على النهار" أن تكون روايته شهادة إدانة لما قاساه الشعب الجزائري من ويلات الاستعمار، بل أرادها شرفة عالية يطلّ منها على باحة أوسع، تجمع في مساحتها ما يعتقد أنه قادر على الصمود في وجه الزمن رغم الخبل الإنساني.
شرفةٌ تسمح له بالنظر إلى جميع الاتجاهات، بعيدا عن أي انتماء وحكم مسبق، وكأنه يقول لقرائه من خلال قصة بطل روايته "ياسين شراقة" إن ما حدث قد حدث ولا سبيل لإلغائه، ولا طريقة هناك لمحاكمة الموتى.
كل ما نستطيع فعله اليوم هو أن نعيد قراءة التاريخ قراءة إنسانية تكرس حقيقة واحدة لا غير، وهي أن الاستفادة من الماضي لا تتحقق من دون عفو وغفران.
هكذا أراد ياسمينة خضرا أن يرسم لنا شخصية مأساوية تكابد القهر والظلم والحظ السيّئ بكل أشكاله، لكنها في النهاية تمنح الصفح لظالميها، ليس اقتدارا، بل رغبة في الحصول على بعض السكينة غير المؤكدة التي تستحقها.
ومع ما يبدو من نبل على هذا الخيار، فإن الأحداث السابقة له قد توحي للقارئ بأننا أمام حالة استكانة وليس صفحا، لا سيما وأن الضعيف -كما قال المهاتما غاندي- لا يغفر لأن المغفرة شيمة القويّ فحسب.
ويرى الناقد الجزائري الدكتور محمّد داود أن بطل الرواية "ياسين شراقة" تعب مما واجه من متاعب وإكراهات، ورغب في الراحة وبالتالي اختار مسامحة الجميع، فحتى لو أراد الدخول في صراع جديد مع من تسببوا في مآسيه فلن يستطيع، نظرا إلى تنشئته الاجتماعية المتواضعة ومحدوديته الفكرية والثقافية، وبالنظر إلى عدم امتلاكه أيّ رؤية سياسية واضحة أو أي مشروع في الحياة، فمبتغاه الأسمى لقاء والديه وإخوته والاجتماع مجددا بزوجته وابنه بعد غياب طويل، تخلله صراع مع المحن والنكبات.
قد يكون رأي الناقد محمد داود دقيقا وعلميا بلا شك، لكنه أيضا دقيق وعلمي أكثر من اللازم، فالعلاقات البشرية كالمشاعر تماما لا تخضع إلى أي منطق، بل قد تولد الأوضاع الأكثر إنسانية في ظروف لا علاقة للإنسانية بها، ظروف قد تتسم بالوحشية والقهر، لكنها لن تفرض دائما طبيعة خيارات المحاط بها، كما أن العفو قد يكون خيارا أخيرا للمستضعف يمكّنه من استشعار قوة اعتقد دائما أنه لا يملكها، تمليها عليه الكراهية التي قال عنها الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثيرو إن بإمكانها أن تغفر أكثر من الحب.