الروائية السورية لينا هويان الحسن: بالحكايات يُشفى العالم وكل محاولة هي حق
الروائية السورية لينا هويان الحسن تقول "في أدب الرحلة يكون قلمك ممسوكًا بما تراه وتعيشه وتلمسه، ويقتصر التخييل على التداعي، يمكنك الفرار مؤقتا فحسب، هنا أنت مربوط بخيط المكان. في الرحلة ستكتب مشاهداتك. أما في الرواية الأمر مختلف إلى حد كبير، مع حرية أكبر وأوسع، في الرواية تعدو أحصنة المخيلة على خارطة لا حدود لها".
تعمل الروائية السورية لينا هويان الحسن -الفائزة قبل أسابيع قليلة بجائزة "ابن بطوطة لأدب الرحلة" عن كتابها "كعب الجنية- على تجاوز قلاع الكتابة الروائية من خلال طرق باب الرحلة وعناصرها الفنية وأفقها الجمالي والتصاقها بالواقع اليومي.
ورغم اختلاف أدب الرحلة عن الكتابة الروائية من حيث النسق، فإن شغف لينا هويان الحسن يتزايد بالاشتباك مع مفهوم الواقع جماليا، وقد يكون اهتمامها بأدب الرحلة في تخييلاتها المعاصرة ينبني بشكل أساس على علاقتها الآسرة بمفهوم المكان، الذي يشغل حيزا كبيرا في عدد من رواياتها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأدب الرحلة الأوروبية والوساطة الاستشراقية.. الشرق في عيون السرد الألماني
شربل داغر للجزيرة نت: الميل المتعاظم في سيرتي إلى عيش مزدوج هو ما يتحقق للقارئ
لوحات أدب رحلة القرن 19 تعود لصيف الرباط.. أعمال الفنان الفرنسي أوجي دولاكروا بالمغرب بعد 190 عاما
وتعد صاحبة "كعب الجنية" من الوجوه البارزة في الرواية السورية، التي غذت وجدان القارئ العربي بموضوعات جديدة تتعلق بالبادية السورية، وجعل القارئ يسافر عميقا في جسد جغرافيات أخرى يتشابك فيها الواقع بالتخييل.
وإذا كان التاريخ يشكّل عمودا أساسيا في أعمالها الروائية، فذلك يعود حصرا إلى مكانة هذا التاريخ المحلي داخل التاريخ الكلي أو الشمولي، حيث تجعل لينا هويان الحسن من فعل الذاكرة مسارا غنيا منه تتوالد القصص والحكايات، وتنسج فيما بينها مشروعا روائيا مسبوكا بالتخييل التاريخي.
بمناسبة فوزها بجائزة "ابن بطولة لأدب الرحلة"، كان للجزيرة نت هذا اللقاء معها:
سيرة مختلفة
-
لينا هويان الحسن، اتصالا بسيرتك الروائية التي أضحت اليوم تؤسس لها مسارا مغايرا في سيرة القارئ عربيا. هل تعتقدين أن نشأتك بالبادية السورية أثرت بشكل قوي على تجربتك الروائية؟
الماضي هو "إشراقات" الذاكرة، شمس متوهجة لا تغيب، بسببها قد تُضاء كل حياتك أو العكس، وأنا من الصنف الأول. يدٌ قدرية غامضة كبست زر الإضاءة السحرية. كلنا نعلم أنّ العرب كانوا يربون أبناءهم في البوادي، والمكان الذي أنتمي إليه هو البادية التي اختارها بنو أمية لتربية الأمراء. إلى الغرب قليلا عن "ضيعتي"، توفي الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وإلى الشرق قليلا تشمخ رصافة هشام.
وهنا تصارعت كل من بكر وتغلب، إضافة للوجود الروماني وحوادث تاريخية رهيبة شهدتها المنطقة، كل ذلك ظل حيّا في المرويات الشفهية للأهالي، وهذا "كنز" للكاتب. إضافة إلى تنوع الدماء واختلاطها على مرّ العصور، مثلًا هنا خالطت القبائل العربية قبائل الشركس التي وفدت على دفعتين على مدى 50 عاما ومنحهم العثمانيون كل خط القرى الواقع على تخوم البادية الشامية ليكونوا بمواجهة مباشرة مع فرسان البدو لأن الشركس اشتهروا بفروسية باهرة.
وهذا انعكس على أيضا على الدماء، فلا تستغرب إذا ما كنتُ بدوية وعندي جدّة شركسية! اختلاط مثير يفرز الكثير من الحكايات التي استثمرتها في روايتي (ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلا).
لا أنكر أني عملت وفق عبارة عبد الفتاح كليطيو: ينبغي أن يكون شعار كل كاتب: "اجعلْ من نفسك بحيث لا يعوّضك أحد"، على الأقل حاولت، لأني مهووسة بـ"المختلف" ويثير جنوني "التشابه"، وكلّ محاولة هي حقّ، والباقي في عهدة الزمن والقارئ.
التاريخ السوري
-
إلى أي حد يشكل التاريخ السوري المعاصر بأحداثه وسيره بالنسبة لك ملاذا للتخييل، وقاطرة لاجتراح أفق أدبي مختلف؟
"المعاصر" السوري!؟ إذن ينبغي أن تخوض في الدماء الزكية التي سُفكت دون رحمة أو حساب من قبل كل الأطراف المتقاتلة في سوريا! أمام مفردة "المعاصر" يمكن أن ينظر إلى الكاتب باعتباره (شاهدا) على الموت، لكن ماذا لو كان شاهدا مزيفا مزورا ومدعيا؟! وهذا حدث بوفرة ويحدث دائما.. تجارة رابحة مؤقًتا وخاسرة على المدى البعيد.
كتبتُ نصّين عن "المعاصر الدموي والتدميري"، رواية "الذئاب لا تنسى"، وهي رحلة دفن شقيقي الذي قتل في مطلع الأحداث واحتجازنا في المزرعة لمدة 40 يومًا، وكنتُ شاهدة منحازة انفعالية وحزينة ومتورطة وجدانيًا، وغاضبة ورافضة وغير مصدقة، وتسللت كل هذه المشاعر إلى النص الذي كانت كتابته بمثابة الترياق المضاد للحزن، والنص الثاني هو "كعب الجنيّة" الفائز حديثًا بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات.
جائزة أدب الرحلة
-
فزت قبل أسابيع بجائزة علمية في أدب الرحلة عن فرع "الرحلة المعاصرة". ما السر وراء انجذابك إلى عوالم أدب الرحلة وارتباطك الوثيق بالفضاء التخييلي المفتوح الدهشة والحلم؟
هذا النص هو فاتحة لمجموعة من النصوص المتعلقة بالأمكنة التي تركت أعمق الأثر، فالأمكنة كالأشخاص تُعشق وتمسك بنا، الأمكنة أيضًا أقدار، وبدأتُ من قدري الأوّل من ما يسمى "جفتلك حماة"، فسلكتُ الدرب المنطلق من حمص صوب حماة بمحاذاة نهري المفضل "العاصي" مارا بالرستن البلدة التاريخية المحلقة على كتف النهر الخرافي، لم أغفل السيرة التاريخية للأمكنة التي أعبرها في رحلتي الطويلة صوب قريتي. للدروب غواية كتبت عنها مرارا. حمص، تلبيسة، الرستن، حماة، العلا، الحمراء، حيث يقال إنها أخذت لون تربتها من دماء فرس أبي زيد الهلالي، ومن الغريب أنها كانت مزرعة لتربية الخيول للجيش العثماني، هل هذا مصادفة مثلّا؟: دهشة الأقدار.
ما الرحلة؟ ما الرواية؟
-
لكن، ما مدى اختلاف روايتك عن النمط الروائي من حيث الكتابة والتخييل؟
في أدب الرحلة يكون قلمك ممسوكًا بما تراه وتعيشه وتلمسه، ويقتصر التخييل على التداعي، يمكنك الفرار مؤقتًا وحسب، هنا أنت مربوط بخيط المكان. في الرحلة ستكتب مشاهداتك. أما في الرواية الأمر مختلف إلى حد عميق، مع حرية أكبر وأوسع، في الرواية تعدو أحصنة المخيلة على خارطة لا حدود لها.
التخييل التاريخي
-
في روايتك الأخيرة "أنطاكية وملوك الخفاء" تستعرضين سيرة أنطاكيا وتعملين على رصد الحياة الاجتماعية لهذه المدينة في لحظات معينة من التاريخ. هل تعتقدين أن الكتابة الروائية المتخيلة قادرة على ترميم بياضات التأليف التاريخي؟
الأدب ريشة الطاووس الملونة التي تشبه في الوقت نفسه العين، الأدب عينٌ سحرية تتحرّى التاريخ، لا دوافع عندي غير الشغف، لست سارترية ملتزمة، إنّما أمشي في ركاب "ديونيسوس" الذي عُثر على أجمل اللوحات التي مثلته، ممتطيًا ظهر النمر في أنطاكيا التي خضعت لتصفية استعمارية لتخسر سوريا أبهى عواصمها.
على تخوم أنطاكيا قتلت زنوبيا الملكة صاحبة المشروع السوري الخالص، لو نجحت لتغيّر تاريخ كل سوريا. وهناك انعطف نهر العاصي مذعنًا لدعسة قدم امرأة خرافية اسمها "تيخا" أرغمته على أن ينهي مسيرته المائية وليصبَّ في البحر، لم أستطع مقاومة فتنة هذه الخرافة التي تنتصر للمرأة ولقدراتها. قطعًا سأكون في صفّ امرأة تلّقب بأمّ النسور، تغيّر مجرى نهر الرواية! هي سيرة نساء التغيير الجارحات، امرأة لا تَجرح التاريخ ذاته، لا يُعوّل عليها.
دور المرأة
-
ما الدور الذي تضطلع بالمرأة في أحداث الرواية وخصوصيتها ككل في التاريخ السوري الحديث؟
اخترتُ 3 ملوك حكموا في الخفاء، كائنات أسطورية (تيخا وعشيرة وباخوس)، أي ملكتان وملك، وتركت باقي أفراد الرواية كبيادق تحركهم ألاعيب ملوك الأقدار. الرواية بحد ذاتها هي سيرة لثلاث نساء (فهرية وعدوية وفجر)ن دون إغفال الحفر في مصداقية الحدث التاريخي، وهذا برأيي ما يعطي قيمة للسرد والروي التاريخي، أستهلّ كل الرواية بعبارة: (بالحكايات يُشفى العالم) على لسان العرّاقة الصابئية الملقبة بالهدهدية، وهذه ابنة لرجل قيل إنّه تنبّأ بدقة بموعد زوال حكم آل عثمان وموت السلطان عبد الحميد كذلك بمقتل آل رومانوف في روسيا، وقد اختفى في ظروف غامضة.
سلطة التاريخ
-
في السنوات الأخيرة، ثمة سفر غريب من لدن الروائيين صوب الرواية التاريخية، هل تعتقدين أن هذه الظاهرة صحية للأدب المعاصر وتستجيب أكثر للحاضر؟ أم أن للأمر علاقة بالنزوع الوجداني صوب مفهومي التاريخ والواقع؟
سألوذ برأي لجاك دريدا وأوافقه عليه تمامًا: (يخضع التاريخ لمختلف أنواع الكذب، هناك الخديعة والتدليس والافتراء. الكذاب هو "رجل الفعل" بامتياز).
وينقل دريدا عن حنة أرندت قولها ان اللجوء إلى الكذب إحدى الوسائل الضرورية والمشروعة لممارسة السياسة والحكم. إذن الحدث والخطاب التاريخي عبارة عن شبكة عنكبوتية، تتقاطع فيها سلطات ورغبات وأهواء وأفكار، يجب العمل على تفكيكها. من هنا تأخذ الرواية التاريخية سطوتها وسلطتها وشرعيتها. ليس كل الكتّاب لديهم أهلية هذا النمط من الكتابة، لأنه يحتاج إلى رحلة اطلاع مكثفة وجرأة في انتشال الحقيقة من براثن السلطتين السياسية والدينية.
أعود هنا إلى أرندت التي ترى أن "عمليات الختل لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، مما يعني أن تاريخ الكذب حادث وعارض لمجيء الحقيقة". إذن فلم لا تكون هذه الحقيقة منجزا روائيا أدبيا سردي يحسب على عالم الأدب؟