جوخة الحارثي تنسج شفويّة "حرير الغزالة"
يبدو الأمر وكأن الجميع يتخلى عن ليلى أو غزالة، حتى هي تبدو وكأنها تتخلى عن نفسها، عندما تضع نفسها في علاقات تبدو فاشلة منذ البداية، هو تعذيب متواصل للنفس بسبب أول تخلٍ لأختها آسية عنها.
تتابع الروائية العُمانية جوخة الحارثي أسلوبها الحكائيّ ذاته في روايتها الجديدة "حرير الغزالة" الصادرة حديثاً عن دار الآداب البيروتية.
وهذا الأسلوب يتبدّى في تقسيم الحكاية الطويلة إلى قطع صغيرة متناثرة في صفحات متعددة. بمعنى أنها تسرد عدة حكايات ضمن الرواية الواحدة، ولكنها تقوم بتقسيم هذه الحكايات إلى قطع صغيرة، تسرد قطعة من هذه الحكاية، ثم فجأة تسرد قطعة من الحكاية الأخرى، وهذا التتابع ليس بالضرورة أن يكون متبادلاً دائماً، ولكن يحلو لها هذا الانتقال الفجائي وكأنه نوع من اللعب مع الحكاية والشخصية وكذلك القارئ.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsماذا تقرأ في الحجر المنزلي؟ روايات عالمية وكتب خيال مقترحة لكسر العزلة
مبادرات وكتابة وحوار يتجاوز الحظر.. الثقافة تنتعش "افتراضيا" ومن البيت في عُمان
مجلة "بانيبال" تحتفي بالرواية العربية الجديدة
شعرات باط
وفي هذا العمل الجديد، تبقى الحارثي ساردة لحكايات نسوة من الريف العماني. إذ يكون مسقط رأس الحكايات هو قرية اسمها "شعرات باط" قبل أن يتحول اسمها إلى "الواحة". ومن هذه القرية الصغيرة، المليئة بالأفلاج الصغيرة التي تمرّ بالبيوت والبساتين، ستنطلق الشخصيات، في اغترابها العادي أو القسري، إلى مناطق ومدن بعيدة.
قوام الرواية يدور حول شخصية غزالة أو ليلى، وحرير، وبشكل ما عن سعدة وآسية ومليحة وبقية النسوة.
كانت الشخصية الرئيسية قد وُلدت حديثاً، ولم تكن تحمل اسماً بعد، وعندما وصلت بها أمها إلى بيت العائلة في شعرات باط، شاهدت نسوة ينتحبن، ثم قلن لها إن والدها قد مات. فرمت فتحية بنتها، التي بلا اسم، في الهواء وصارت تنتحب مع النسوة، فتلقفتها سعدة قبل أن تسقط على الأرض.
غزالة كان الاسم الذي منحتها إياه سعدة لما آوتها إلى حضنها وأرضعتها حليبها. أما أمها فتحية فعندما عاودها رشدها أرجعت الرضيعة إلى بيتها وأسمتها ليلى. في شهادة الميلاد سجلوها ليلى وكذلك فعلوا في المدرسة، وعدا شهادة الميلاد وشهادات المدرسة، فإن أحداً قط غير أمها لم يُنادها بليلى.
العازف
سيُصبح لغزالة أخت بالرضاعة هي آسية. وأمهما سعدة شخصية روائية تراجيديّة بكل معنى الكلمة، وتعرّضت لمآسٍ عديدة كان آخرها غرق ابنتها زهوة في أحد الأفلاج، ثم سنعرف في مكان آخر من الرواية أن أختها آسية قد دفعت بتلك البنت الصغيرة إلى الفلج.
زوج سعدة المغترب في الإمارات للعمل، كما باقي رجال تلك القرية، سيعود ليُعيل ابنتهما ويقف إلى جوار زوجته في مصابهما في فقدان صغيرتهما. ولكن سعدة ستموت، وسيتحوّل الأب إلى فضيحة بسبب إدمانه للكحول، وضياعه نفسيّاً بعد كل هذه المصائب، فتأخذ آسية بيده، وتغلق باب البيت، وترحل به عن القرية نهائياً، دون أن يعرف أحد مصيرهما.
غياب آسية الفجائي سيؤثر كثيراً على أختها بالرضاعة ليلى التي ستهرب من بيت أهلها مع عازف لتتزوجه، وهو كذلك سيتخلى عنها فيما بعد، لتبقى وحيدة مع توأميهما.
الرواية تدخل إليها شخصية حرير فجأة، لتصبح الراوية في كثير من المواضع، ولتتابع هي سرد الحكايات، وخاصة حكايتها مع عائلتها ووالدتها المصابة بسرطان الثدي، والأهم هو سرد حكايات ليلى مع اللاجئ العراقي في السويد، وكذلك عن محاولة عودة طليقها كصديق، ورحيله من جديد، وعن علاقتها الفاشلة مع زميلها "الفيل" المتزوّج من ابنة عمه، ولا يستطيع أن يخذلها. زميلها الذي "أدركتْ أخيراً أنها لا ترتجف آخر النهار بسبب تبريد المكيّف العالي في الشركة، وإنما بسبب رائحته".
عام الفيل
هذا التقسيم الفسيفسائي كان موجوداً كذلك في روايتها الشهيرة "سيدات القمر" ويبدو أن الحارثي مخلصة لهذا الأسلوب الذي يدلّ عليها، ولكن هذا لا يعني قصد البطء والتقسيم، فهذه الرواية القصيرة (163 صفحة) تبدو سريعة جداً في بعض الفصول. تمضي سنوات كثيرة وحكايات كثيرة في مقطع واحد. فـ "في غضون 5 سنين كانت غزالة قد أنجبت توأماً، وأنهت شهادة الدبلوم العام، ودخلت الجامعة، وفي سنتها الأخيرة في كلية التجارة، هرب العازف من بيت الزوجية".
بينما تتحدث في فصل كامل (عام الفيل) عن وجه زميل ليلى. تأخذ وقتها ببطء لتتحدث عن وجه ذلك الشخص الذي يعمل معها في الشركة ذاتها. تتحدث، مثلاً، عن قميصه من لحظة حياكته وخياطة أزراره على يد عاملة ستحصل مقابل الانتهاء منه على ثمن عشاء أولادها، إلى الرحلة التي استغرقها ذلك القميص حتى وصل إلى عُمان، وإلى متجر بعينه، إلى اللحظة التي تمتد فيها يده بالذات، يدُ الفيل، لاختيار هذا القميص ودفع ثمنه ولبسه، ومن ثمّ اتساخه وغسله وكيّه وعودته إلى ذلك الجسد من جديد.
هذا البطء يبدو قادماً من خارج هذه الرواية القصيرة/النوفيلا، والتي تتدفق بسرعة زمانية ومكانية وسردية كبيرة. فـ "تُحدّق في حواجبه، بشعرات قصيرة ومتناثرة، فكرت بأنها تشبه حواجب صينيّة، وحدّقت في جبهته، وهي تنفرج وتتغضّن مع تعبيرات وجهه أثناء الحديث، وفكرت أن عقله كامن في مكان ما خلف هذه الجبهة وتحت هذا الشعر الأسود، وتخيّلت مخّه، متعرّجاً، تسري فيه آلاف الأفكار التي لا تعرفها، وآلاف المشاعر التي لا تفهمها، يُفكر ولا تستطيع التحديق في تفكيره".
التخلي
يبدو الأمر وكأن الجميع يتخلى عن ليلى أو غزالة، حتى هي تبدو وكأنها تتخلى عن نفسها، عندما تضع نفسها في علاقات تبدو فاشلة منذ البداية، هو تعذيب متواصل للنفس بسبب أول تخلٍ لأختها آسية عنها.
بسيطة هي لغة رواية "حرير الغزالة" وتنجح الحارثي بشدّ القارئ منذ المشهد الأول بطريقة سينمائية، وتأخذه إلى دواخل الشخصيات وحكاياتها وغرابتها وطموحاتها التي تموت ببطء.
في ذات الوقت، هناك حكايات جانبية تنتهي في صفحة أو صفحات قليلة. هي كذلك تشكل لعبة سردية من الحارثي للتأثير في دواخل القارئ، وكأنها تسرد هذه الحكايات شفوياً للقارئ، وتحاول أن يبقى في دائرة كلماتها ولا يشعر بالملل أو الغياب.
ومنها هذه الحكاية العجائبية "وُلد ناصر أواخر القرن الـ 19، كان أبوه قد سمّاه سلطان، وظلّ في بواكير صباه يعاني الحميّات والأسقام، حتى جاء لأبيه وقال: لستُ سلطان. دهش الأب، لكن الطفل صمّم على كلامه ورفض الاستجابة لنداء من يُناديه بسلطان، يئسَ الأب: ما اسمكَ إذن؟ قال الولد: ناصر. اسمي ناصر، وهكذا كان، فشُفيَ من كلّ داء".
رواية تسرد من خلالها من جديد صاحبة رواية "نارنجة" حيوات نسوة من عمق عُمان، بسلاسة كبيرة، رغم قفزاتها بين الحكايات المختلفة، وبين الأزمنة المختلفة، وبين الأماكن المختلفة، مستخدمة لغة متخفّفة، نوعاً ما، من الحوارات، ومستعيضة عنها بحوارات داخلية للشخصيات. وتنجح في استبدال راوية الحكايات في كل مرة، لتقدم للقارئ إضافة لحكاية غزالة من دون أن يكون لها أيّ صيّاد، حكايات شخصيات تُعاني من دواخلها، التي تبدو أكبر منها، أو عصية على فهم الآخرين، وكذلك من عائلاتها ومحيطها الواسع. رواية ينتهي منها القارئ في جلسة واحدة وكأنه سمعها مباشرة من حكواتي المقهى.