"العزيزة فلسطين".. تاريخ الحرب والإبادة في رسائل الجنود العرب واليهود زمن النكبة
لم يقتصر تتبع الرسائل على المقاتلين العرب والفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية، وإنما توسع ليشمل استثمار أجهزة المخابرات الإسرائيلية في تتبع حياة ورسائل اللاجئين في البلاد التي تم تهجيرهم إليها "للتأكد من عدم تمكنهم من العودة".
في 15 مايو/تموز 1948 أنهت الحكومة البريطانية انتدابها على فلسطين، وبالتزامن أعلن قادة الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل لتندلع الحرب بين قوات عربية من الممالك المصرية والأردنية والعراقية والسعودية، إضافة إلى سوريا ولبنان، في مقابل المنظمات الصهيونية مثل الهاغانا والبلماح والأرجون والشتيرن.
انضم عشرات الآلاف من اليهود من جميع أنحاء العالم إلى المجموعات العسكرية التي شكلت الجيش الإسرائيلي فيما بعد وفاقت في عددها الجيوش العربية النظامية التي قاتلت في فلسطين مجتمعة، بينما شارك متطوعون من اليمن وباكستان والسودان والإخوان المسلمون إلى جانب جيش التحرير (الإنقاذ) العربي وجيش الجهاد المقدس الفلسطيني.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمؤلفة أميركية تحاول الإجابة عن سؤال القرن الماضي.. كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟
بينهم بوبر وأينشتاين وأرنت.. أصوات يهودية “منشقة” صارعت الصهيونية نحو قرن كامل
"غريبا عن الشام والأندلس".. عندما خاطب درويش عرفات في الذكرى الـ500 لسقوط غرناطة
استمر القتال أكثر من 9 أشهر حتى مارس/آذار 1949 وأسفر عن أحداث النكبة وتهجير الفلسطينيين وسيطرة إسرائيل على المساحة التي منحتها خطة الأمم المتحدة المعروفة بقرار التقسيم، إضافة إلى قرابة نصف الأراضي المخصصة للدولة العربية، بينما بسطت الأردن نفوذها على الضفة ومصر على غزة.
وفي كتابه الذي نشرته مطبعة جامعة ستانفورد بعنوان "العزيزة فلسطين.. تاريخ اجتماعي لحرب 1948" يحاول شاي حزكاني -المؤرخ وأستاذ مساعد بجامعة ميريلاند- تقديم قراءة تاريخية اجتماعية لحرب 1948 عبر تتبع الرسائل الشخصية التي تم اعتراضها وحفظت في الأرشيف الإسرائيلي بعد أن كتبها المقاتلون على جبهات القتال (المختلفة) إلى أحبابهم في بلدانهم الأم، ووصفوا فيها تفاصيل من حياتهم اليومية وأفكارا مختلفة عن الحرب وسواها، مما يمثل أرشيفا اجتماعيا هائلا يؤرخ لتلك الحقبة.
تلصص على الرسائل
يتتبع كتاب "عزيزتي فلسطين" أيضا أوامر عسكرية ونشرات ومجلات الجيش والبث الإذاعي، ويكشف مثلا كيف حاول ضباط التدريب إقناع اليهود الأشكناز (الغربيين) بأن العنف المنظم يتماشى مع القيم اليهودية، بينما كانوا يسعون لإقناع السفارديون (اليهود الشرقيون الذين أتى كثير منهم من بلدان عربية) أن العرب هم أعداؤهم وأن قتال العرب هو انتقام لآبائهم الذي عاشوا مظالم الحكم العربي.
وفي مقدمة الكتاب استعرض المؤلف قصة عبد الله داود، وهو يهودي عراقي كان أحد المتطوعين المقاتلين في جيش الإنقاذ العربي حيث شارك في الهجوم على المجموعات اليهودية في كيبوتس جنوب الناصرة قبل أن يهاجر ويعيش في إسرائيل لاحقا ويخفي تاريخه في القتال إلى جانب العرب، لكنه مع ذلك ظل يزور القرى الفلسطينية ويصادق سكانها، في نموذج استثنائي غريب.
في المقابل تكشف الرسائل العربية عن آمال العودة القريبة بعد تهجير الفلسطينيين من قراهم، وتمتلئ بالإدانة للقادة العرب وخطاباتهم الجوفاء وتطالب بمحاسبتهم على الفشل والإخفاق، وفي الرسائل طالب الفلسطينيون القادة العرب بالوفاء بوعدهم بإنقاذ فلسطين، في حين أن الأخيرين طالبوا الفلسطينيين بالبقاء في أماكنهم حتى في مواجهة أعنف الهجمات ضدهم، وتكشف الرسائل كيف كان بعض القادة العرب يخشون المتطوعين ويحاولون إجبارهم على المغادرة.
وتكشف الرسائل أيضا عن قصص غير مألوفة مثل خيبة أمل اليهود المغاربة من العنصرية الإسرائيلية ضدهم بعد أن وصلوا إليها.
ويقول المؤلف إن 70% منهم رغبوا في العودة إلى المغرب في أعقاب الحرب؛ وهو الشعور الذي أسس -بعد عقد من الزمان- أعمال الشغب والمظاهرات والتخريب في حي وادي الصليب بحيفا عام 1959 بعدما أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على مهاجر يهودي أتى من المغرب، واعتبرت هذه الأحداث فارقة في إثارة قضية التمييز العرقي بين اليهود الأشكناز وبين "المزارحيين"، أي اليهود من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ولم تكن قضية العنصرية والتمييز هي الموضوع الوحيد الذي أرق هؤلاء، فقد انتقدوا أيضا النزعة العسكرية الإسرائيلية والروح الشمولية، حسب رسالة نقلها المؤلف عن شخص يدعى مارسيل من وادي صليب في حيفا إلى صديقه إيلي في المغرب.
تكشف الرسائل والاستطلاعات التي أُخذت عن "يهود الشتات" الذين تطوعوا مع القوات الإسرائيلية خلال حرب عام 1948 عن مجموعة أخرى من "المثاليين"، حسب تعبير المؤلف، صُدم معظمهم من الوحشية والفساد اللذين شهدوهما في الدولة اليهودية الوليدة.
واستنادا إلى استطلاع عام 1949 لمتطوعين يهود أميركيين في الجيش الإسرائيلي، نقل حزكاني أنه بعد الحرب كان لدى حوالي 55% من المتطوعين "وجهات نظر سلبية تجاه إسرائيل ومواطنيها".
ينقل المؤرخ عن أحد جنود جنوب أفريقيا، ريتشارد، الذي كتب إلى عائلته يقول "لا أريد أن أحارب من أجل الطموح الإقليمي والإمبريالي للصهاينة الأفنديين، حتى لو كانوا يدعون أنفسهم اشتراكيين. القيادة الصهيونية تحرض على الحرب من أجل توسيع حدود إسرائيل. لقد خلقوا جوًا شبيهًا بالحرب عن قصد… لا أريد المشاركة في هذه اللعبة بعد الآن".
دعاية عسكرية
يكشف كتاب حزكاني أيضًا عن التنافس والتوتر بين جيش الإنقاذ (الذي أسسته اللجنة العسكرية للجامعة العربية) وجيش الجهاد المقدس (القوات النظامية الفلسطينية بقيادة عبد القادر الحسيني) وكذلك خلافات بين ضباط وجنود جيش الإنقاذ وبين الفلسطينيين، ويعرض كيف اعترض بعض الفلسطينيين على تدخل جيش الإنقاذ في الشؤون المجتمعية الخاصة بينما ينقصه التجهيز والتأهيل العسكري الكافي، في المقابل سخر بعض ضباط الجيش العربي من قدرة الفلسطينيين على تحرير أرضهم بأنفسهم.
ويقارن المؤلف بين مضامين الدعاية على جانبي القتال، مؤكدا أن دعاية جيش الإنقاذ كانت أقل عنفا وأكثر عقلانية وركزت على القيم العالمية والقانون الدولي، واشتملت بعض الرسائل على عبارات قومية عربية، مثل اعتبار أن الكفاح من أجل فلسطين ليس سوى خطوة أولى في خطة ثورية مناهضة للاستعمار، واشتملت رسائل المقاتلين العرب على المعاني الدينية والقومية الواضحة.
ويتناول المؤلف كذلك قصة الضابط السوري فوزي القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ الذي قاد معارك عديدة ضد الإسرائيليين واستفاد من المتطوعين الفلسطينيين قبل أن يستقيل بعد توقيع اتفاقيات هدنة 1949 بين العرب وإسرائيل، ويكشف كيف أصر القاوقجي على التزام جيشه باتفاقيات جنيف بشأن معاملة المدنيين وأسرى الحرب.
وبتحليل المضمون الديني لمواد الدعاية العسكرية لدى الطرفين، يشير المؤلف إلى أن جيش الإنقاذ قدم اليهود على أنهم أهل ذمة تجاوزوا حدودهم، في المقابل يكشف الكتاب كثيرا من مواد الدعاية والتلقين العقائدي التي بثتها القوات الإسرائيلية واشتملت على كثير من التحريض الديني الدموي والدعوة للإبادة الجماعية، وشبهت بعض تلك المواد الدعائية حرب عام 1948 بحروب الإبادة التوراتية، وشبهت العرب بأعداء بني إسرائيل في الكتاب المقدس (العماليق وشعوب ودول كنعان السبع) التي أمر الكتاب المقدس بإبادتهم.
وحصلت القوات الإسرائيلية على رسائل متطوعي جيش الإنقاذ أثناء الحرب بعد السيطرة على مراكز عسكرية وتم الاحتفاظ بكل هذه المواد في أرشيف الجيش الإسرائيلي، حيث لم يتمكن المؤلف من الوصول إليها إلا بعد معركة قانونية طويلة.
وفي عرضه للكتاب، كتب الأكاديمي بقسم التاريخ بجامعة كاليفورنيا ديفيد مايرز أنه من الغريب أن جميع المصادر التي يستخدمها المؤلف حزكاني -سواء كانت فلسطينية أو يهودية- جاءت من الأرشيف الإسرائيلي.
ويفسر ذلك باعتبار أن الجيش الإسرائيلي لم يحتفظ بمواد جنوده والرسائل التي تلصص عليها من قواته فحسب، بل احتفظ برسائل من مكاتب البريد في البلدات العربية ومن أمتعة الجنود العرب الذين قتلوا في الحرب، وإضافة إلى ذلك فقد اعترض مكتب الرقابة الإسرائيلي (الذي يصفه المؤلف بالأخ الأكبر) رسائل الجنود على جانبي الصراع العربي والإسرائيلي.
وتعكس تلك المصادر عدم تناسق القوة بين طرفي الصراع؛ فالمجموعات اليهودية لم تهزم نظيرتها العربية في القتال وحسب، بل استولت أيضا على السجلات والأدلة من الجانب العربي، وظلت تلك الممارسة مستمرة عقودا بعد الحرب. وعلى سبيل المثال، نهب الجيش الإسرائيلي أرشيفات أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1982، حسب منصة لوس أنجلوس لعروض الكتب (lareviewofbooks) .
ويشير الكاتب إلى أن الاعتماد على الأرشيف الإسرائيلي يعني بالضرورة تلقي أكثر ثراء للموقف الإسرائيلي أكثر من الجانب العربي. وعلى سبيل المثال، كان الادعاء المتكرر للدعاية الإسرائيلية وحلفائها الأكاديميين أن المقاتلين الفلسطينيين كانوا بتحريض من إخوانهم العرب، مدفوعين إلى القتال بدافع جهادي لإبادة اليهود، غير صحيح.
ويضيف الكاتب أن الجانب اليهودي (الإسرائيلي لاحقًا) لم تكن لديه ميزة نوعية فحسب، بل ميزة كمية.
وعلى سبيل المثال، خلص المؤرخ آفي شلايم إلى أنه بحلول المرحلة الأخيرة من الحرب، فاق عدد القوات الإسرائيلية عدد جنود جميع الجيوش العربية بنسبة 2 إلى 1. وهو عكس الرواية الإسرائيلية السائدة التي صورت إسرائيل في مواجهة جيوش عربية هائلة لكسب التعاطف في الغرب.
رسائل اللاجئين
ولم يقتصر تتبع الرسائل على المقاتلين العرب والفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية، بل توسع ليشمل استثمار أجهزة المخابرات الإسرائيلية في تتبع حياة ورسائل اللاجئين في البلاد التي تم تهجيرهم إليها "للتأكد من عدم تمكنهم من العودة".
وتضمنت بعض رسائل اللاجئين الفلسطينيين في الخارج لأقاربهم في الداخل حزنا وأسى وحنينا لبلادهم وأرضهم، وكتب إسكندر من عمان لأحد معارفه قائلا "كيف حالك وكيف حال برتقالك.. تسألني لماذا لا أكتب.. القلب مثقل وليس حرا في الكتابة.. لا يوجد شيء جميل في هذا العالم.. أين الأيام الجميلة؟ توقف الضحك ولا أثر للفكاهة…".
ورغم الأسى الواضح في تلك الرسالة ومثيلاتها فإن رسائل كثيرة كانت تشتمل على نبرة تفاؤل وتنتظر الحل الوشيك حيث يعود اللاجئون إلى أراضيهم وقراهم التي هجروا منها، وسأل أحد اللاجئين أحد أقاربه في يافا إن كان منزله قد تعرض للنهب، وطلب منه إحضار نجار لإصلاح الباب حتى يمكن إغلاقه واستئجار حارس لمنع نهب محتوياته. في المقابل كتب حبيب من عكا لعائلته في الخارج عام 1949 أن معظم المباني استولى عليها اليهود، وأن الحدائق والخضروات (الحقول) نقلت إلى أيديهم بالكامل؛ كل هذا نتيجة جلوس رجال عرب في المقاهي والتحدث بكلمات جوفاء".