فورين بوليسي: اللغة الأجنبية تسيطر على مقاعد الدراسة في هاييتي

طوال تاريخ هاييتي، اعتادت سياسة الدولة اللغوية على حماية المزايا اللغوية للنخبة المتقنة للفرنسية، وتقوم الدولة الهاييتية ووزارة التربية الوطنية التابعة لها بفرض هذه المزايا عن طريق وضعها امتحانات في اللغة الفرنسية يجب على جميع طلاب الدولة اجتيازها للتخرج.

طلاب بمدرسة في هاييتي، البلد الكاريبي الذي كان مستعمرة إسبانية حتى احتلتها فرنسا سنة 1626 ويعد من أفقر بلاد العالم في نصف الكرة الأرضية الغربي (غيتي)

في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 1492م وصل الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس إلى شواطئ جزيرة هيسبانيولا حيث أول مستعمرة أوروبية في العالم الجديد لصالح إسبانيا، لكن التنافس بين القوى الأوروبية أدى لتقسيم الجزيرة بين بلدين هما هاييتي في الجزء الغربي التي حصل عليها الفرنسيون، وهاييتي الموجودة في الجزء الشرقي الذي حصلت عليه إسبانيا وأصبح يعرف باسم جمهورية الدومينيكان.

وقبل وصول المستعمرين الفرنسيين إلى جزيرة هيسبانيولا في القرن الـ17، كانت لغة تاينو هي اللغة الرئيسية لهاييتي وكذلك باقي جزر الكاريبي؛ وعندما بدأ سكان هايتي الأصليون في الاختلاط بتجار الرقيق والمستوطنين، بدأت لغة الكريول الهاييتية في التطور.

وظهر أول نص مكتوب موثق باللغة الكريولية الهاييتية -وهو قصيدة شعرية- في عام 1757، وتطورت اللغة بشكل أساسي في مزارع قصب السكر في هاييتي نتيجة الاتصالات بين المستعمرين الفرنسيين والعبيد الأفارقة، بحسب الموسوعة البريطانية.

السبب في اللغة

في هاييتي -كما هو الحال في العديد من البلدان- تعتبر اللغة حاجزا بين الطبقات، وغالبا ما تُستخدم لتحديد المكانة الاجتماعية، وبينما يتحدث حوالي 90% من الهاييتيين باللغة الكريولية الهاييتية -حصرا- يتساءل زوار البلد الكاريبي؛ لماذا تطغى اللغة الفرنسية على قطاع التعليم في البلاد؟

وقال الكاتب بنجامين هيبليثويت -في تقريره الذي نشرته مجلة "فورين بوليسي" (Foreign policy) الأميركية- إن سياسة اللغة تعد عاملا أساسيا في معاناة الهاييتيين اقتصاديا وسياسيا وتدهور ظروفهم الحياتية منذ الموافقة على الدستور الجديد لهاييتي في عام 1987، وتعد هاييتي حاليا أفقر دولة من حيث الغذاء في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

وقبل استقلال الدولة واتخاذها اسم هاييتي في يناير/كانون الثاني عام 1804؛ كان الهاييتيون يعيشون في ظروف عبودية قاسية تحت الاستعمار الفرنسي الذي لم يشيد قط مدرسة للسكان المجبرين على العمل في مزارع السكر والقهوة والنيلة.

وبعد ذلك، خاض جيل من الرجال والنساء والأطفال ذوي العرق الأسود والمختلط حربا استمرت قرابة 13 عاما لإبعاد الاستعمار الفرنسي والعبودية.

وفي ذلك الوقت كتب الجنرال جان جاك ديسالين إعلان استقلال هاييتي باستخدام اللغة الفرنسية، نظرا لأن اللغة المكتوبة الوحيدة التي يعرفها النخبة الناجون من الحرب التي أسفرت عن مقتل نصف عدد السكان.

ويتحدث جميع الهاييتيين باللغة الكريولية. في المقابل، كانت النخبة حريصة على اكتساب معرفة جديدة باللغة الفرنسية وتمييز نفسها عن الطبقة المتحدثة باللغة الهاييتية.

وأصبح الجنرال ديسالين حاكما لهاييتي، حيث أمر بإعدام المواطنين الفرنسيين المتبقين في البلاد، لكنه مارس الحكم باللغة الفرنسية التي كان يتحدثها بطلاقة دون القدرة على قراءتها أو كتابتها. وبذلك، أصبح إتقان اللغة الفرنسية هاجسا للأقلية المتعلمة؛ نظرا لأنها تعكس تراثهم ثنائي اللغة وتتيح لهم فرصا في أوروبا.

 ازدواجية صارمة

حتى يومنا هذا، لا يزال أطفال هاييتي يخضعون لنظام مدرسي يعمل إلى حد كبير بلغة لا يتحدثها سوى القليل من الهاييتيين، ناهيك عن القراءة أو الكتابة. وتشير التقديرات إلى أن الهاييتيين القادرين عمليا على التحدث بالفرنسية واللغة الكريولية لا يشكلون إلا ما يتراوح بين 5 إلى 10% من السكان.

وطوال تاريخ هاييتي، اعتادت سياسة الدولة اللغوية على حماية المزايا اللغوية للنخبة المتقنة للفرنسية، وتقوم الدولة الهاييتية ووزارة التربية الوطنية التابعة لها بفرض هذه المزايا عن طريق وضعها امتحانات في اللغة الفرنسية يجب على جميع طلاب الدولة اجتيازها للتخرج.

ومنذ عام 1804، حُرمت الأغلبية الهاييتية الناطقة بالكريولية من إمكانية الوصول إلى المؤسسات الأساسية المطلوبة لأغراض التقدم الاجتماعي. وبينما أصبحت الكريولية اللغة الرسمية المشتركة للبلاد بموجب دستور هاييتي لعام 1987؛ فإن الواقع لا يدل على ذلك.

وتجدر الإشارة إلى أن الصحيفة الرسمية للدولة الهاييتية "لو مونيتور" (Lumonitor) تنشر باللغة بالفرنسية، ولا يزال المتحدثون بالكريولية يتعرضون للإذلال في كل مكان، وبات إتقان اللغة الفرنسية بمثابة رمز محوري للوضع الاجتماعي والاقتصادي للهاييتيين.

ومنذ اغتيال الرئيس الهاييتي جوفينيل مويس -في السابع من يوليو/تموز 2021- انتقل الهاييتيون لاستخدام اللغة الكريولية، ولم يستخدم أي هاييتي كلمة فرنسية واحدة، سواء في الخطاب العام لكبار السياسيين والقادة المدنيين وصحفيي الإذاعة والتلفزيون أو حتى من المواطنين الذين تأتيهم الفرصة للتحدث أمام الميكروفونات.

وأشار الكاتب -في المجلة الأميركية- إلى أن أطفال هاييتي ما زالوا يخضعون لمنهج دراسي مقتصر على اللغة الفرنسية.

وفي بلد يعاني حوالي 42% من سكانه من الجوع الحاد ويفتقر معظم السكان -البالغ عددهم 11.6 مليون نسمة- إلى الكهرباء والمياه الجارية وضعف اللغة الفرنسية لدى أغلب معلميها؛ لا يزال أطفال هاييتي مجبرين على الحصول على المحتوى التعليمي باللغة الفرنسية التي لم يعد يريد أي أحد استخدامها.

سياسات اللغة

وقع تبني الكريولية لغة رئيسية للتعليم خلال السنوات الثلاث الأولى من التعليم الابتدائي في عام 1987. بعد ذلك، ينتقل الطلاب للمناهج الفرنسية بحلول السنة الرابعة، لينحصر تعليم الكريولية لفصل واحد فحسب.

وخلال الثمانينيات، أدت "إصلاحات برنارد للتعليم" إلى توسيع نطاق الوصول إلى التعليم. في المقابل، يستمر الانتقال إلى اللغة الفرنسية في انقطاع الطلاب عن الدراسة بأعداد تفوق المتخرجين بكثير.

ولا يجد الطلاب الهاييتيون أي ناطق باللغة الفرنسية في مدارسهم وعائلاتهم، ويفتقرون إلى إمكانية الوصول لوسائل الإعلام الفرنسية، ولديهم القليل من الكتب الفرنسية.

ونتيجة لذلك، لا يتمكن سوى 35% من الهاييتيين من الوصول للتعليم الثانوي. وفي نهاية الصف الـ11 و12، تخضع أقلية صغيرة من التلاميذ للامتحانات الوطنية "المقدسة" للغة الفرنسية، وينجح منهم ما يقل متوسطه عن 25% سنويا.

علاوة على ذلك، أشار تقرير من عام 2019 إلى أن 7% فقط من الهاييتيين الذين يبدؤون التعليم الابتدائي يكملون سنتهم الأخيرة في نهاية المطاف.

وفي ظل نقص الموارد، يطالب الهاييتيون باكتساب أسس التنمية الشخصية والمجتمعية بلغة أجنبية يتعذر الوصول إليها.

وفي المقابل، تتمسك الدولة بهذه اللغة؛ نظرا لأن النخب ثنائية اللغة تريد فتح الفرص أمام أطفالها في فرنسا وكندا.

وبالمثل، طورت الجماهير عقدة النقص اللغوي، ونادوا بتعليم لغة النخبة تطلعا لحياة أفضل لأطفالهم. بالإضافة إلى ذلك، هناك جهات أجنبية تريد الحفاظ على الفرنسية في دولة هاييتي، فغالبا ما لا يريد الدبلوماسيون والعمال الأجانب وموظفو المنظمات غير الحكومية والمحتلون العسكريون التحدث باللغة الكريولية الهاييتية.

وذكر الكاتب أن الجهات المدافعة عن الوضع الراهن تشمل السفارة الفرنسية والبنك الدولي ومجموعات الدولة الفرنسية مثل المنظمة الدولية للفرانكوفونية، التي تركز على النهوض بالسياسات الناطقة بالفرنسية في جميع أنحاء العالم.

وتلتزم هذه المنظمات الفرنكوفونية بتعزيز المصالح الفرنسية التجارية والثقافية والسياسية، مما يؤدي لانتهاك الحقوق اللغوية لحوالي 90% من الهاييتيين الذين لم يتح لهم الحصول على شهادة الثانوية لأنهم لا يملكون وسيلة لاكتساب اللغة الفرنسية.

وقد يزعم الغافلون أن اللغة الكريولية تفتقر إلى المنشورات والمفردات الكافية لجعلها اللغة الأساسية في الدولة الهاييتية ومدارسها.

وعموما، توجد كتب كريولية مهمة بالفعل. فعلى سبيل المثال، يوفر كتاب فرانسوا سيفرين -الذي يحمل عنوان "النباتات والأشجار في هاييتي"- معرفة عملية في مجال الزراعة والبيولوجيا والإيكولوجيا، بينما يقدم كتابه الذي يحمل عنوان "أيها الطائر الصغير، إلى أين ذاهب؟" معلومات حول علم الطيور والبيئة. وعلى الرغم من وجود حاجة للاستثمار في الكتب المدرسية؛ فإن أكثر من قرن من المنشورات باللغة الكريولية توضح مدى قدرات الكتاب الهاييتيين.

المصدر : فورين بوليسي