فورين بوليسي: شاهدة على غزاة يأتون ويذهبون.. قلعة "بالا حصار" تختزل تاريخ أفغانستان

قلعة "بالا حصار" قرب كابل التي كانت مستوطنة بشرية منذ العصر البرونزي ظلت شاهدة على انحسار الثروات وتدفقها في أفغانستان ردحا طويلا من الزمن (الفرنسية)

نشرت مجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) الأميركية مقالا للصحفية الأسترالية لين أودونيل تناولت فيه قصة قلعة قديمة تقع بالقرب من العاصمة الأفغانية كابل كانت محور أحداث تاريخية كبرى شهدتها هذه المنطقة من آسيا.

واستهلت الكاتبة مقالها بالتذكير أنه مر زمان طويل كانت فيه كابل في موقع قوة على الساحة الدولية، فحكامها كانوا يُنصبون داخل قلعة ضخمة تحيط بها أديرة بوذية في مفترق طرق تجارية كانت تُنقل عبرها الثروة والعلم إلى كافة أرجاء قارة آسيا وما ورائها.

واليوم –تضيف أودونيل- أطلال تلك القلعة تروي لنا قصة آلاف السنين من تاريخ دولة تبدو الآن مختلفة جدا وهي أفغانستان. والحديث هنا عن قلعة "بالا حصار" (Bala Hissar)، الواقعة إلى الجنوب من مدينة كابل الحديثة.

لم يتبق من تلك القلعة سوى بعض أسوارها القديمة وتحصينات متداعية، وهي اليوم مرتع للكلاب الضالة ومأوى لفرق تعمل في مجال التنقيب عن الآثار والتي عثرت على قطع صغيرة من الفخار تحت سطح الأرض يعود تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي.

وفوق سطح الأرض، توجد قطع أثرية معظمها حديثة وهياكل صدئة لدبابات محترقة من حقبة الاحتلال السوفيتي في ثمانينيات القرن الماضي. وتقع أسفل الموقع مباشرة قاعدة عسكرية شيدها الأميركيون لاحقا وورثتها الآن حركة طالبان.

وقد ظلت قلعة بالا حصار -التي كانت مستوطنة بشرية منذ العصر البرونزي- شاهدة على انحسار الثروات وتدفقها في أفغانستان ردحا طويلا من الزمن. كما شهدت العديد من الغزاة يأتون ويذهبون، وبروز سلالات ملكية لا حصر لها وسقوطها.

القلعة تختزل تاريخ أفغانستان

يقول رئيس البعثة الأثرية الفرنسية في أفغانستان فيليب ماركيز إن تاريخ هذه القلعة هو تاريخ أفغانستان تماما؛ الحافل بالغزاة ومن صنعوا حضارات هائلة وبنوا شبكات تجارية "رائعة".

وتمضي أودونيل لتنقل عن ماركيز قوله إن "ما نريده هنا مركزا تعليميا ليدرس التلاميذ تاريخ بلدهم فلطالما كانت القلعة موئلا لتاريخ أفغانستان. وسيكون من المثير جدا أن نشهد ما سيحدث هنا في الشهور المقبلة".

وترى الكاتبة أنه ومع إنهاء الولايات المتحدة "احتلالها" الذي دام قرابة 20 سنة لأفغانستان في خروج "اتسم بالفوضى"، فإن الإشكالية التي شابت عمليات التنقيب عن الآثار في قلعة "بالا حصار" -إبان اقتتال المليشيات المسلحة والوحدات العسكرية على عواصم الولايات الأفغانية- لم تزد إلا تفاقما.

وتنقل أودونيل -التي تولت إدارة مكتب وكالتي الأنباء الفرنسية وأسوشيتد برس في أفغانستان بين عامي 2009 و2017- عن متحدث باسم حركة طالبان أن الحركة قد تغيرت وباتت "أقل تشددا في نظرتها الأصولية المتطرفة".

غير أن ما تنبئنا به قلعة "بالا حصار" عن ماضي أفغانستان لا يوفر أي أدلة محددة عن الفصل التالي لهذه الدولة، حسب كاتبة المقال. غير أنه من الواضح تماما أن "الفوضى ظلت تحيط بالمكان مرة تلو أخرى"، وأن فهم التاريخ الأفغاني -والإفادة منه- يبقى أمرا حيويا لبناء مستقبل "أكثر أمانا وازدهارا".

نشأة القلعة

ويكتنف الغموض نشأة القلعة، إذ يُعتقد أنه جرى تحصينها في القرن السادس الميلادي، وربما شهدت صراعا إبان النشاط العسكري التركي في المنطقة أواخر تلك الفترة وفي أثناء زحف الجيوش العربية في القرن السابع عندما كان وادي كابل "معقل المقاومة الرئيسي ضد المد الإسلامي"، على حد تعبير مقال فورين بوليسي نقلا عن بيل وودبيرن الخبير في تاريخ القلاع القديمة.

وكانت كابل قد دانت لحكم الغزنويين -وهي سلالة مسلمة فارسية تعود أصولها إلى المماليك الأتراك- في القرن العاشر، وتوقف عندها القائد المنغولي جنكيز خان عام 1221.

ووفقا لوودبيرن، فإن القائد العسكري المغولي الآخر تيمورلنك مر عبر المنطقة عام 1398 في طريقه إلى غزو الهند "وترك حفيدا له حاكما فيها".

في حين أن ذروة قوة قلعة "بالا حصار" جاءت مع سلطنة مغول الهند، التي أسسها مطلع القرن السادس عشر الإمبراطور ظهير الدين محمد بابُر الذي حكم خلال الفترة من 1526 حتى 1530.

وكان من يحتل قلعة "بالا حصار" يسيطر على الطرق داخل كابل وخارجها، حيث كانت المدينة مركزا تجاريا جذبت إليها أناسا من كل بقاع الأرض.

وفوق القلعة باتجاه الجنوب صعودا لأعلى جبل شير دروازا، يمكن رؤية أطلال أسوار مدينة كابل القديمة ومبان مرتفعة للمراقبة. وجرى ترميم بعض المعابد باعتبارها معالم تاريخية، علما أن واحدا منها على الأقل قد تحول قبل مئات السنين إلى مسجد.

وطبقا لماركيز، فإن معظم الأديرة والمعابد بُنيت في القرن الأول الميلادي وربما استُخدمت حتى القرن التاسع عندما نشر العرب الإسلام في المنطقة.

وتعرج الصحفية الأسترالية في مقالها على الحديث عن فترة زمنية أخرى، إذ تقول إن الاعتقاد السائد أن القلعة ظلت عرضة للاحتلال منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد لغاية حوالي عام 1880.

فرق التنقيب عن الآثار عثرت على قطع صغيرة من الفخار  بالقلعة يعود تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي (الفرنسية)

ملوك ومستعمرون

وقد استولت القوات البريطانية على القلعة إبان الحربين الأولى والثانية بين الإنجليز والأفغان في القرن التاسع عشر. وهناك اعتقاد بأن رفات الرحالة والمستشرق الأسكتلندي السير ألكسندر بيرنز مدفون في سرداب تحت القلعة.

وكان السير ألكسندر ملقبا بـ"بخارى بيرنز" عقب زياراته السرية إلى ما يعرف الآن بأوزبكستان في ذروة الصراع المعروف باسم اللعبة الكبرى بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية على أفغانستان والأقاليم المجاورة في وسط وجنوب آسيا في القرن التاسع عشر.

وتوفي في القلعة مقتولا أيضا السير بيير لويس نابوليون كافانياري في سبتمبر/أيلول 1879، وهو المبعوث البريطاني في كابل والمسؤول الذي وقَّع معاهدة غانداماك مع الأمير محمد يعقوب خان (1849–1923) في شهر مايو/أيار من العام نفسه.

وتعاقب على الحكم داخل أسوار القلعة ملوك أفغان من أمثال شاه شجاع، والأمير دوست محمد خان، والأمير شير علي خان، وابنه محمد يعقوب خان الذي وقع معاهدة غانداماك مع كافانياري.

وبعد انسحاب القوات البريطانية عام 1880، لم تعد قلعة بالا حصار مجمعا سكنيا، فقد بنى الأمير الأفغاني عبد الرحمن خان لنفسه قصرا في قلب كابل الحالية، وظل منذ ذلك الحين مقرا للزعماء الأفغان، ومن بينهم الرئيس أشرف غني الذي فر من البلاد قبيل اجتياح حركة طالبان للعاصمة.

وقد تحول جزء من القلعة في العقد الثالث من القرن الماضي إلى أكاديمية عسكرية، لكن في أواخر السبعينيات -أي في الحقبة الشيوعية- ثم بعد اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى في التسعينيات، كانت بالا حصار مسرحا لقتال شرس تناثرت خلاله الألغام والذخائر غير المتفجرة.

وترى الكاتبة أن البوذية لعبت دورا مهما في أفغانستان، مستشهدة في ذلك بمقولة ماركيز بأن البوذية حلت بأفغانستان وبقت فيها لقرون عديدة وربما كانت تلك "أهم فترات تطورها كفلسفة".

ويأمل ماركيز أن يعود إلى أفغانستان -التي غادرها قبيل استيلاء طالبان على السلطة- في أقرب فرصة ممكنة، حيث من المفترض أن يكون الآن منهمكا في الإعداد لإقامة معرض للآثار الأفغانية في العاصمة الفرنسية باريس.

ومع أن أمر إقامة المعرض -كما تقول لين أودونيل في ختام مقالها- يتوقف على القرارات والسياسات التي ستتخذها الحكومة الفرنسية والمجتمع الدولي حيال الحكم الجديد في أفغانستان، إلا أن ثمة أشياء كثيرة تعتمد على مدى استعداد حركة طالبان وقدرتها على التعلم من تاريخها هي نفسها، ومن تاريخ التاريخ الأفغاني الأوسع.

المصدر : فورين بوليسي

إعلان