هجمات 20 أغسطس/آب 1955.. هكذا اخترقت ثورة الجزائر أروقة الأمم المتحدة

برغم تلك الفاتورة الباهظة بشريا لحملة الشمال القسنطيني الجزائرية، فقد حققت مكاسب شعبية وسياسية ودبلوماسية مهمة لثورة التحرير، تمثلت أساسا في إحباط مشاريع الحاكم الفرنسي جاك سوستال الرامية إلى دمج الجزائريين بفرنسا والقضاء على شخصيتهم الإسلامية العربية.

مظلّيون يفرقون المتظاهرين الجزائريين في الجزائر العاصمة عام 1960 ، أثناء حرب الاستقلال الجزائرية (الفرنسية)

الجزائر – بعد أقل من 100 يوم عن اندلاع ثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في نوفمبر/تشرين الأول 1954، اضطرت سلطات باريس إلى تعيين حاكم جديد لها في مستعمرتها الأهم أفريقيا، باعتبارها مفتاح الدخول والاستمرار في القارة.

وقع اختيارها على جاك سوستال "القائد العسكري المحنك في السياسة والخبير في المجتمعات البدائية التي درسها في أميركا اللاتينية، ما جعل الحكومة الفرنسية تستنجد بخبرته في القضاء على الثورة"، بحسب شهادة المجاهد الراحل عمار بن عودة.

واستخدم سوستال كل الوسائل الممكنة للقضاء على ثورة الجزائريين من خلال تطبيق فكرة الإدماج السياسي والإداري، فقد كانت كل إصلاحاته تحمل في طياتها فكرة الإلحاق.

وجاء في تصريحاته "أن الجزائر تؤلف جزءا لا يتجزأ من فرنسا، وإنها لن تتركها، ولا بد من العمل كل يوم أكثر لإدماجها فيها"، وفق ما نقله المؤرخ الجزائري الأخضر جودي في كتابه " لمحات عن ثورة الجزائر".

وحين واجه سوستال صعوبات شتى في تحقيق فكرته الإدماجية، لجأ إلى تفعيل قانون الطوارئ، مستعينا بضباط سامين من ذوي الخبرة في حرب العصابات، من أمثال الجنرال "بارلنج" والعقيدين "ديكورنو وبيجا"، للحد من روح المقاومة لدى الجماهير الشعبية.

إعلان

ونفذ هجومات مكثفة على الشرق الجزائري وتدابير تعسفية، كما سلط كل أنواع القمع على المناضلين الوطنيين، لإبعادهم عن الثورة، بحسب كتابات المؤرخ العربي الزبيري.

عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي والحاكم العام السابق للجزائر جاك سوستال في الجزائر العاصمة (غيتي)

رد الفعل الثوري

غير أن الثورة الجزائرية لم تقف مكتوفة الأيدي تجاه الهمجية الفرنسية، بل كان موقفها جهاديا منظما، أشعل لهيب العمل المسلح، لتزداد الثورة قوة وانتشارا، عبر تنفيذ هجمات 20 أغسطس/آب 1955، والتي شكلت منعطفا حاسما في تطور كفاح الشعب الجزائري.

وأقرت قيادتها خطتها التاريخية والحاسمة لمواجهة الخطر الداهم، بتنظيم هجومات "الشمال القسنطيني"، كما تسمى، نسبة إلى خارطة تنفيذها جغرافيا، لنسف أحلام سوستال، والنزول بالثورة إلى الشارع، لتصبح ثورة جماهير، لا ثورة نخبة من الشعب.

وهدفت إلى إشعار العالم بقوتها والتفاف الشعب حولها، ولفت أنظار الأمم المتحدة إلى القضية الجزائرية، لحملها على تسجيلها في جدول أعمال دورة 1955.

وكان اختيار 20 أغسطس/آب موعدا لتنفيذ هذه العملية الواسعة، بسبب مصادفته للذكرى الثانية لنفي السلطان المغربي محمد الخامس، كما يقول المؤرخ بشير ملاح.

وتركزت الأحداث في تنظيم زحف عام على مراكز السلطات الفرنسية، بواسطة قوات المجاهدين وكل أفراد الشعب عبر أنحاء المنطقة، مثلما أوردته المؤرخة عقيلة ضيف الله، في بحثها الأكاديمي عن " التنظيم السياسي والإداري للثورة".

وترتبت عنها قيام الفرنسيين بحملة انتقام واسعة ومريعة ضد السكان العزل، شملت القتل الجماعي والذبح والحرق والسلب والنهب والقصف وانتهاك الأعراض وبقر بطون الحوامل والتمثيل بالبشر وسحق النساء والأطفال والشيوخ المكبلين بالدبابات ودفن الناس أحياء.

وكانت حصيلتها استشهاد ما بين 12 ألفا إلى 14 ألف جزائري، كما وثقه المؤرخ أحسن بومالي في كتابه عن "إستراتيجية الثورة في مرحلتها الأولى".

إعلان

مكاسب نوعية

وبرغم تلك الفاتورة الباهظة بشريا، فقد حققت الهجمات مكاسب شعبية وسياسية ودبلوماسية مهمة لثورة التحرير، تمثلت أساسا في إحباط مشاريع الحاكم الفرنسي جاك سوستال، الرامية إلى دمج الجزائريين بفرنسا والقضاء على شخصيتهم الإسلامية العربية.

وأقنعت المترددين من عامة الناس ومن الشخصيات المستقلة وقادة المنظمات الأخرى بتجذر وحتمية الخيار الثوري، وضرورة الانضمام إلى قافلة الجهاد، ناهيك عن إقناع الرأي العام الفرنسي والعالمي بأن الشعب الجزائري قد تبنى جبهة التحرير الوطني.

وأدت إلى تدويل القضية الجزائرية في أعمال الجمعية العامة العاشرة للأمم المتحدث (سبتمبر/أيلول 1955)، حيث شكلت الرد القوي على الاستعمار في أنه لا يمكن إدماج أي شعب مع شعب آخر إلا بموافقته، كما أنه لا يمكن إلحاق بلد بآخر بمقتضى مرسوم، وفق تعبير المؤرخة ضيف الله.

وتمكنت الثورة من إقناع العالم بأنها إرادة شعب، لا تمرد جماعة معزولة، كما تدعي فرنسا، حتى إن جاك سوستال علق على الحدث بقوله "إن ما وقع في نيويورك أثمن من قافلة أسلحة توجه إلى جبهة التحرير"، بحسب ما سجله المؤرخ الجزائري بشير ملاح.

كما نجحت في تأكيد وحدة جهاد ومصير شعوب المغرب العربي، فقد "تلاحقت الأحداث وتفاعلت في المنطقة، وفي فرنسا نفسها، وبعد خطوات عديدة وإجراءات كثيرة، قررت الاعتراف رسميا بمحمد الخامس سلطانا للمغرب، عقب طرده إلى جزيرة مدغشقر، وبعد أن ردد المسؤولون -وفي مقدمتهم رئيس الحكومة آنذاك أدقار فور- أنه لن يعود أبدا".

وجسد تزامن الحملة الجزائرية مع ذكرى نفي السلطان محمد الخامس (في 20 أغسطس/آب 1953) شعور التضامن مع نضال الشعب المغربي.

سياق دولي

وعن الأهمية الدولية لتلك المحطة المفصلية في مسار ثورة تحرير الجزائر (1954-1962)، أكد الأكاديمي لزهر بديدة -المختص في التاريخ الدبلوماسي للثورة الجزائرية- أنه لا يمكن فهم الأهداف والأبعاد العسكرية والسياسية لهجمات "الشمال القسنطيني" من دون التوقف عند صاحب الفكرة والتنفيذ معا؛ الشهيد زيغود يوسف قائد تلك المنطقة الثورية.

لزهر بديدة: توقيت الهجمات الثورية كان ذكيا ودقيقا ومؤثرا إذ كان في الفترة بين مؤتمر باندونغ ودورة الامم المتحدة (الجزيرة)

وقال بديدة -في حديث للجزيرة نت- إن زيغود كان صاحب نظرة متكاملة للثورة، وقدرة جيدة على قراءة الأحداث الداخلية والخارجية، لذلك قرر انتفاضة شاملة في المنطقة التي يقودها (الشمال القسنطيني)، حتى يكون لها ما بعدها محليا وعالميا.

إعلان

وهو ما اعترف به لاحقا الحاكم العام للجزائر حينها جاك سوستال، بتأكيده أن "هجومات 20 أغسطس/آب 1955 تمثل الانطلاقة الحقيقية لما يحدث في الجزائر (للثورة)".

وأوضح بديدة أن سياقها الزمني جاء بين حدثين دبلوماسيين، هما مؤتمر "باندونغ" لكتلة دول عدم الانحياز (18 إلى 24 أبريل/نيسان 1955) ومخرجاته، وعقد الدورة العاشرة لهيئة الأمم المتحدة.

وأفاد بأن اجتماع المجموعة الأفرو-آسيوية في أندونيسيا مثّل نجاحا دبلوماسيا للثورة الجزائرية في أول ظهور لها على المسرح الدولي، ما جعل القائد زيغود يوسف يخطط لاستثماره في أشغال الجمعية العامة المرتقبة للأمم المتحدة في بداية سبتمبر/أيلول 1955، خاصة أن مقررات باندونغ دعمت مطلب جبهة التحرير الوطني في حق تقرير مصير الشعب الجزائري.

وتتمة لهذا المسعى -والكلام للمؤرخ بديدة- طالبت 14 دولة مشاركة في المؤتمر، أمين عام الأمم المتحدة، بتاريخ 26 يوليو/تموز 1955، بتسجيل القضية الجزائرية على جدول أعمال الدورة المقبلة.

نصر دبلوماسي

وأدرك الشهيد زيغود يوسف أن هذه المعطيات الدبلوماسية يجب أن يسبقها عمل على الأرض، يصل صداه الإعلامي إلى أروقة الأمم المتحدة، فكان توقيت تلك الهجومات دقيقا وذكيا ومؤثرا، حيث فرضت نفسها في الصحافة الدولية لعدة أسابيع، على حد تعبيره.

ويضيف المؤرخ بديدة أنه بالتزامن مع ذلك -وتحديدا في 22 أغسطس/آب 1955- أبرق عضو قيادة الثورة بالخارج محمد خيضر مذكرة إلى الأمم المتحدة، مطالبا فيها بضرورة تهيئة الظروف لتسوية المشكل الجزائري بالطرق السلمية.

غير أن هذا المسعى اصطدم بنجاح الضغوط الفرنسية والأطلسية على عديد الدول، وهو ما حال دون تسجيل القضية الجزائرية في تلك الدورة، بفارق صوت واحد (28 مقابل 27)، وامتناع 5 أعضاء عن التصويت.

لكن حضور ممثلي الجزائر في هذا المحفل الدولي الأهم -بصفة مستشارين للوفد السوري- ونسبة المؤيدين للقضية في بدايتها، صنعا -بحسب المؤرخ بديدة، نصرا دبلوماسيا مكن قيادة الثورة من البناء عليه مستقبلا.

إعلان
المصدر : الجزيرة

إعلان