السودان يشيّع الشاعر الثائر وشيخ الروائيين.. رحيل الشاعر محمد طه القدال والروائي عيسى الحلو

قبل أن يفيق السودانيون من صدمة رحيل الشاعر محمد طه القدال، وبينما يستفسر المهتمون ومحبو الشاعر عن موعد وصول الطائرة التي تقلّ جثمانه، جرت الدموع على الدموع حين نعى الناعي الروائي الكبير القاص والصحفي عيسى الحلو، ليفقد الأدب السوداني في ساعات اسمين كبيرين قدما الكثير له.

رئيس الوزراء -تشييع جنازة الرجلين أمس في الخرطوم
رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك أثناء تشييع جنازة الشاعر الثائر محمد طه القدال في الخرطوم (الجزيرة)

الخرطوم- مشهد مهيب من دموع وبكاء، ومعزون يتبادلون التعازي دون أن يعرف بعضهم بعضا، وجموع غفيرة غمرت مطار الخرطوم بعد أن غمرها حبّ الشاعر محمد طه القدال.

استقبلت الجموع السودانية جثمان فقيدها الشاعر الثائر الذي أسلم روحه في العاصمة القطرية الدوحة، يتقدمهم رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك وعدد من الوزراء والسياسيين والشعراء والأدباء.

الدموع كانت سيدة الموقف، تهليل وتكبير ودعاء للفقيد، وحناجر تردد بعض أشعار الفقيد المتغنية بحب الوطن.

الكلمة المقتضبة التي قالها حمدوك لأجهزة الإعلام عبّرت عن حال الذين توافدوا لتشييع الشاعر، حيث قال "ما تركه من إرث سواء الكلمة الناضجة المصادمة أو الشعر الرصين، سيظل زاداً للأجيال. إلى جنات الخلد الشاعر القدال، وسنظل أمناء على الإرث الغني الذي تركته"، بعد ذلك شق موكب الجثمان طريقه إلى "حليوة" مسقط رأس الشاعر غرب مدينة "ود مدني" بولاية الجزيرة، ليوسد الثرى هناك.

وكان آخر ما غرّد به الشاعر الراحل عبر حسابه على تويتر، هو مطالبة السودانيين بدعم مبادرة حمدوك لإنقاذ الفترة الانتقالية، وتصويب مسارها وتحقيق أهداف الثورة العظيمة، بحسب ما ذكر في تغريدته.

إعلان

وكان القدال -المولود عام 1951- قد خاض رحلة  مع  المرض  الذي زادت حدته في الشهور الأخيرة، لينتقل من الخرطوم إلى القاهرة ثم الدوحة، حيث أسلم الروح هناك في الساعات الأخيرة من الأحد 4 يوليو/تموز الجاري، وبعد أن أديت صلاة الجنازة عليه في أبو هامور بالدوحة، أقلت طائرة خصصتها قطر جثمان الراحل إلى الخرطوم.

تشييع حافل

غطى الحزن السودانيين داخل وخارج بلادهم، ونصبوا له سرادق عزاء على حساباتهم في مواقع التواصل،  فقد كان القدال محبوبا مبجلا، وكانت قصائده ذات سيرورة بين الناس، كتبها بعامية بسيطة بمفردات اليومي وهمومه أيضا، مع الاهتمام بالمشكلات الأساسية التي ظلت تؤرق أهل السودان .

وكتب عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني على صفحته في فيسبوك "مثله يفيض عن مساحة قبره ويرشح من صمته الأبدي نثيثٌ يقاوم اليباب، فهو الشاعر الذي انتمى لضمير شعبه واتسعت قصائده لآلامه وآماله، توقف قلبه النابض بحب السودان وناسه، لكنه سيبقى حيًّا بينهم بنصوصه الباذخة التي تزيده سطوعًا كلما أوغل في الغياب".

ولم يعرف عن الراحل انتماؤه لحزب معين، لكنه كان مناهضا للدكتاتوريات وللحكم الشمولي في عهد النميري وعمر البشير، داعيا للحريات، مهموما بوطنه وقضاياه، مترجما ذلك في قصائد نشرت في دواوين وتغنى ببعضها مطربون اتصفوا بحمل الهمّ السياسي، أمثال الراحل مصطفى سيد أحمد.

رحيل في ثنايا آخر

إعلان

وقبل أن يفيق السودانيون من صدمة رحيل الشاعر محمد طه القدال، وبينما يستفسر المهتمون ومحبو الشاعر عن موعد وصول الطائرة التي تقل جثمانه، جرت الدموع على الدموع حين نعى الناعي الروائي الكبير القاص والصحفي عيسى الحلو، ليفقد الأدب السوداني في ساعات اسمين كبيرين قدما الكثير له وللثقافة على اتساع أطيافها.

عيسى الحلو من مواليد مدينة كوستي وسط السودان عام 1944. عمل بالتدريس أولاً ثم انتقل للعمل في الصحافة، وظل وفيّا لها، واشتهر في الأوساط الثقافية والصحفية بالإشراف الناجح على الملاحق الثقافية بالصحف اليومية.

أصدر عيسى الحلو عددا من المجموعات القصصية، منها: "ريش الببغاء"، و"الوهم"، و"وردة حمراء من أجل مريم"، و"قيامة الجسد"، و"عجوز فوق الأرجوحة"، وله عدد من الروايات أهمها: "حمّى الفوضى والتماسك"، و"صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل"، و"مداخل العصافير إلى الحدائق"، و"الجنة بأعلى التل".

كان الحلو صابرا ومقاوما لمرضه الطويل الذي أقعده في المنزل زمانا، إلى أن نقل للمستشفى قبل وفاته بأيام،  ليرحل عن محبيه صباح أمس الاثنين بعد ساعات من رحيل القدال، ويدفن في مقابر "أحمد شرفي" بأم درمان التي أحبها.

يوم طويل مؤلم

على حائطه في فيسبوك، كتب الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم من مهجره بالولايات المتحدة الأميركية، "تجلس الأمة المكلومة في  صيوان آخر للعزاء، تغسل حزنها بالدمع، وتجففه في أنهار من التنهدات، وتنصبه بأعلى موضع في السرادق، إلى جوار صورة الفقيد، موت آخر، موت أكثر مما ينبغي، في أمة قليل عديدها محاصرة من داخلها وخارجها، بالعيون الراصدة والجيوب العميقة والجياع".

إعلان

الناقد الدكتور مصطفى الصاوي، أفاد الجزيرة نت -والحزن يعتصره بصعوبة الموقف- واصفا اليوم بالطويل المؤلم، وأضاف "هذا يوم طويل ومؤلم. لا ألم أشد من ألم الفقد، فكيف إذا كان الفقد محمد طه القدال وعيسى الحلو".

بينما أفاد الشاعر والناقد أبو عاقلة إدريس -الجزيرة نت- قائلا "لا شك أن فقدان أديب ورحيله خسارة يصعب تعويضها، خاصة إذا كنا نتحدث عن هرمين "، ويضيف إدريس "لكن العزاء أن المبدع يحيا في أدبه وهو  عمره الثاني".

وظلت الساحة الثقافية والإعلامية السودانية من الساعات الأولى من فجر يوم الاثنين في حالة انخطاف وصدمة، تحولت لمتابعة أخبار راحلهم في الدوحة ثم تشييع للحلو، وتنقل بين السرادقين برصيد من الألم كبير.

محبة مسببة

ولعل القاسم المشترك بين عيسى الحلو ومحمد طه القدال هو القيمة الفنية العالية لكل واحد فيما اختار من فن، وابتداع طرق أسلوبية خاصة صارت أقرب للمدارس الفنية، مع اقتران ذلك كله بسمو إنساني وتعامل رفيع.

وفي ذلك يقول أبو عاقلة إدريس في إفادته مخصصا حديثه بالقدال "هو شاعر ذو قيمة فنية عالية، ويطابق قوله فعله، وقصائده التي يتغنى بها الشباب ويذكي بها الثوار نضالاتهم، كان الراحل يعضدها بالخروج معهم ثائرا ومنافحا عما دعا له".

ويلمح بعض النقاد إلى أوجه شبه بين القدال والشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي، إلا أن الكثيرين يرون خصوصية كل واحد في أسلوبه، وقد جمعت بين الراحلين صداقة قوية وبنوة كما وصفها الأبنودي في لقاء تلفزيوني له بقناة النيل الأزرق السودانية، عندما قال "أنا بعتبر محمد طه القدال وأزهري محمد علي، ولادي"، مضيفا "منذ أن كان القدال شابا صغير السن غضا، أنا بشرت به وقلت ده ابني، وقلت ده حيبقى شاعر كبير، والنهارده يدهشني بقصائده، يعني شيء عجيب وجميل".

إعلان

بينما يقول مصطفى الصاوي عن الحلو "عيسى من أعلام الأدب في السودان، وله إسهامات ثرة في الصحافة الثقافية والنقد الأدبي، إن موهبة عيسى الحلو القصصية الروائية تميزت بالتوهج والنصاعة والخيال الخصب الطليق وقدرته الفائقة في جدل وفك خيوط عالمه القصصي والروائي".

ويختم الصاوي إفادته بالحديث عن أعمال الراحل السردية، وأنها "لا تمثل غيرها، بل هي مرحلة جديدة في السرد السوداني ونقلة نوعية متجاوزة صوب نسق مختلف".

صبان عاشقان للتراب

بموت الهرمين الكبيرين تنتهي حياة رجلين قدما للأدب والثقافة ولبلادهما، لكن أعمالهما ستظل باقية تحاول زرع قيم عاشا لأجلها ورعايتها، وتحارب الغياب قبل ذلك. كأن القدال كان يعلم أن له رفيقا يوم رحيله وهو يكتب قصيدته: "صابرين/ ياحزن الغنا/ صابرين/ من بعد الضنا"، ويختمها واصفا نفسه وعيسى الحلو "صبين عاشقين ترابك".

المصدر : الجزيرة

إعلان