الكاتب والشاعر اللبناني عيسى مخلوف.. الكتاب الأول وصرخة الوليد من بطن أمه
يصف الشاعر اللبناني عيسى مخلوف الدافع الأساسي الكتابة بأنه "قد يكون الحاجة إلى التعبير عن الذات، وعما يختلج في داخلي من أفكار وأحاسيس. ربما كانت الكتابة أيضا مسعى جماليا للتخفيف من حدة العنف الذي كان يطالعنا"
يقول نقاد إن الثقافة العربية المعاصرة، تكافح لتعويض غياب الجانب الحميمي في علاقة الكُتاب بكتاباتهم وعادات وفضاءات وأدوات الكتابة ومواطن الإلهام وكتل الأحلام والمشاعر التي تجتاح الجسد لحظة الكتابة والتفكير.
وبالمقارنة مع الثقافة الغربية -التي تحضر فيها هذه العوامل البرانية عن نشوء فعل الكتابة- تحاول اللقاءات والحوارات الاحتفاء بما يسمى بـ"المخطوطات الأولى" الموجودة في مختلف مؤسسات ومتاحف العالم.
اقرأ أيضا
list of 3 items“نوستالجيا الكتاب الأول”.. الروائية اللبنانية ناتالي خوري غريب والشعور المرعب تحت الضوء
لبنان يودع شاعر المحكية والمقاومة عصام العبد الله
ولأن أغلب هذه الكتب الأولى لم تكن بريئة لحظة الكتابة -بما يطبعها من ألم ومخاض أثناء الولادة- فإن ذكراها تنحفر بعمق في مروج الذاكرة ويستيقظ معها شعور الكاتب/الفنان/الروائي/الشاعر عن البدايات والرعشات الأولى في عالم الكتابة والنشر، فيجد الكاتب نفسه "مكشوفا" أمام أعين القارئ، وهو يلتهم فصوصا من سيرته الذاتية وأوهامها وعلاقتها بسِيَر الآخرين الأحياء منهم والأموات.
وفي هذه الزاوية "الفسحة النوستالجية الجديدة" -التي تفتحها "الجزيرة نت"- يبوح عدد من الكُتاب العرب -بمختلف ألوانهم وأجيالهم وحساسياتهم ومشاربهم الإبداعية والفكرية- بالأحلام الوردية التي غزت مخيلتهم على مشارف نشر الكتاب الأول، ويساءلون عن الأسباب التي تقف وراء فتنة النشر وطريقته، والأحلام التي راودتهم وهم ينتظرون رأي الناشر؟ وما الذي حدث بعد صدور الكتاب؟ وهل أصبح الناس يتعاملون معهم على أساس أنهم كتاب؟ ثم ما الذي تغير في حياتهم؟ وهل هم نادمون على تحرير كتابهم الأول؟
في هذه الزاوية تستضيف "الجزيرة نت" الكاتب والشاعر اللبناني عيسى مخلوف، الرجل الذي كاد يعطي للكتابة داخل الصحافة العربية ميسما جماليا ورونقا لا مثيل له، وهو يفجر مكنونات الجسد كتابة، إذ رغم اهتمام مخلوف بالشعر والكتابة النقدية والترجمة، فإنه في نظري من كبار الكتاب داخل العالم العربي الذين يكتبون في الفن بشغف مفرط ووعي معرفي قوي، لا يتوقف عند السياقات التاريخية والسيرية، التي أسهمت في تشكيل العمل الفني، لكن بمحاولة تفكيكه من الداخل.
وقد يكون من الغرابة الاعتراف أنني قرأت عيسى مخلوف ناقدا للفن قبل التعرف عليه كشاعر أو مترجم، بحيث وجدت في بعض كتاباته إنتاجا فكريا غزيرا ومجهودا نقديا مضاعفا لما يقدمه الناقد الفني العربي اليوم. فالشعر لديه لا يقف عند حافة القصيدة وإنما يتسرب وقعه وتأثيره داخل الكتابة النقدية، ففي لغته ثمة الكثير من الصمت، الذي يؤسس شكل الكتابة ومسارها وهي تحفر عميقا في الجسد، ثم تعيده غلالة شفافة.
صدر للشاعر عيسى مخلوف العديد من الكتب الشعرية والنقدية نذكر منها "مدينة في السماء"، عين السراب"، "الأحلام المشرقية.. بورخيص في متاهات ألف ليلة وليلة"، "ما سوف يبقى" وغيرها، فإلى أجوبته عن الأسئلة التي طرحناها عليه:
الصرخة
كتابي الأول وعنوانه "نجمة أمام الموت أبطأت" كتبته بعد سنوات قليلة من وصولي إلى باريس هربا من الحرب الأهلية. كنت في سنواتي الجامعية الأولى. وكنت أتردد إلى مقهى قريب من جامعة السوربون ومطل على حديقة "اللوكسمبور" وأشجارها وتماثيلها.
هناك كتبت العبارة الأولى من الكتاب: "وحدها قدم التمثال تعرف إلى أين/ حين تقرر الهرب من الحديقة". لقد ترددت طويلا في طباعته. كنت أتساءل عما إذا كان لا بد من الانتظار بعد لتنضج ثمار الشجرة اليانعة. وكان سبب حيرتي وترددي، وقتذاك، السؤال الآتي: هل يقدم هذا الكتاب شيئا جديدا؟ هل يشكل إضافة ما؟ نشرته وبقيت الأسئلة قائمة، وهي ما تزال قائمة حتى اليوم، كلما يحين موعد نشر كتاب جديد. كان صدور هذا الكتاب أشبه بصرخة الوليد الأولى حين يخرج من بطن أمه. كان صرخة أولى فحسب.
الكتابة بوصفها وطنا جديدا
لا أدري من أين تأتي الحاجة إلى الكتابة. لماذا يندفع إلى الكتابة هذا الشخص أو ذاك وما الدوافع العميقة إلى ذلك؟ الكتابة هي التي تأتي إلينا، أحيانا، كأننا سعاة بريدها. مع مرور الوقت، وازدياد وطأة الحرب في لبنان، وابتعادي عن الأهل والأصدقاء، بدأت أشعر بأن الكتابة ملجأ، بل بيت نسكن فيه. صحيح أنني بدأت الكتابة يوم كنت ما أزال مراهقا، ونشر لي الشاعر أنسي الحاج حينذاك قصائد في الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة "النهار"، لكن القصائد التي تألف منها كتابي الأول نحت منحى آخر جديدا.
كنت أقرأ في تلك الفترة، بالإضافة إلى الشعر العربي، قصائد لشعراء من جنسيات مختلفة، ومن الشعر الفرنسي بالأخص، بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وكنت أتابع في معهد "الكوليج دو فرانس" المحاضرات التي يقدمها الشاعر الفرنسي إيف بونفوا، فضلا عن متابعة النقد الشعري والأدبي الذي ينشر في الكتب والمجلات. لقد فتحت لي باريس، منذ اليوم الأول لوصولي إليها، باب كنز ثقافي ومعرفي لا ينضب.
باريس.. مسرات لا تنضب
في مجموعتي الشعرية الأولى توجد هواجس ما زالت تلاحقني حتى الآن، وإن تغير شكل التعبير عنها. منذ العنوان، "نجمة أمام الموت أبطأت"، يحضر الموت أكثر مما تحضر الحياة نفسها. باكرا، يعلن الرحيل عن نفسه: "ها أنت ترحل مكللا بالأناشيد/ بالوعود التي استفاقت على غير موعد/ بلهاث التي أحبتك لأنها تجهل من أنت/ بكل الذين يجهلون من أنت ويملأون فمك المنتشي/ بغبار الرؤية والحدس/ بالشعر الذي يخفف من الانتظار/ بالانتظار المؤجل بالرغبات المكتومة/ كأنك الثور في وقفته الأخيرة/ منتصرا ميتا/ غريبا حتى عن موته".
وفي مكان آخر: "لم يعد الموت سرا بعدما رأيتك تموت". كانت غريبة تلك المرحلة من حياتي، ومليئة بالتناقضات والدهشة. تدهشني المدينة وما فيها من إمكانات مبهرة للتعلم والاكتشاف، من مكتبات وعروض مشهدية وصالات سينما وموسيقى ومعارض فنية، لكنني في الوقت ذاته كنت كأنني أخفي في نفسي جرحا سريا حملته معي من بلاد يتقاتل أهلها ويدمرون قراهم ومدنهم. جئت إلى هنا بينما أهلي وأصدقائي بقوا هناك. ضمن هذا المناخ العام، تولدت الحاجة إلى مزيد من الكتابة والتعبير عن الذات. الكتابة التي هي، في حد ذاتها، رفض للسائد ورد فعل على الواقع وما فيه من حروب وظلم وعنف، بل تحويل هذا الواقع إلى شيء آخر مختلف.
شيء يخرج من الذات إلى العلن
الدافع الأساسي قد يكون الحاجة إلى التعبير عن الذات، وعما يختلج في داخلي من أفكار وأحاسيس. ربما كانت الكتابة أيضا مسعى جماليا للتخفيف من حدة العنف الذي كان يطالعنا. في تلك المرحلة، عملت محررا ثقافيا في القسم الثقافي في أسبوعية "النهار العربي والدولي" الصادرة في باريس (بينما الصحيفة اليومية ظلت تصدر في بيروت طوال فترة الحرب). وكانت تجربتي المنتظمة الأولى في عالم الصحافة. كنت أعمل وأتابع دراستي الجامعية في آن واحد. في تلك الأسبوعية التقيت عددا من الكتاب والشعراء منهم: أنسي الحاج وأمين معلوف ووديع سعادة وعصام محفوظ.
الكتاب الأول كان بمثابة شيء يخرج من الذات إلى العلن.. إلى الضوء. هذا الشيء الغامض يتخذ شكلا ويصبح مرئيا. كأنه صورة لروح الكاتب وأوهامه وأحلامه. معه بدأت رحلتي الفعلية مع الكتابة.
الكتابة تولد عشق الحياة
الناشر كان "دار النهار للنشر" في بيروت، وأظن أن عملي في "النهار العربي والدولي" سهل طباعة الكتاب. مع ذلك، كانت تعنيني آراء من حولي.
بفرح طبعا، رغم ظروف الحرب. كنت في لبنان وقتذاك، لفترة أيام معدودة. رأيت النسخة الأولى في مطبعة صحيفة "النهار"، وكانت الصحيفة ما تزال في مبناها في شارع الحمرا قبل أن تنتقل إلى مبناها الجديد في الوسط التجاري. جميلة هي الأيام التي تصدر فيها الكتب.
ما الذي يمكن أن يحدث سوى المزيد من القراءة وارتياد صالات السينما والمسرح وسماع الموسيقى والانفتاح على المعارف المختلفة، والعيش في العصر أيضا، في همومه وتحدياته؟ ما الذي يمكن أن يحدث سوى المزيد من الحس بالمسؤولية. تسنى لي، بفعل عملي في الإعلام، أن ألتقي عددا كبيرا من الشعراء والروائيين والمفكرين والفنانين التشكيليين من جنسيات مختلفة منهم من كان يقيم في العاصمة الفرنسية، أو من يمر بها للمشاركة في نشاط ثقافي أو بمناسبة صدور كتاب له فيها.
كانت باريس في ثمانينيات القرن العشرين تعيش زخما ثقافيا كبيرا مع كوكبة من الكُتاب والفنانين والفلاسفة والمفكرين، فضلا عن الوافدين إليها من كل مكان. وكنت أتابع حياتها الثقافية بشغف. كانت العلوم الإنسانية في جامعاتها أيضا أفضل مما هي عليه الآن، وقبل أن يتحكم رأس المال، وبقوة أكثر، بمرافق التعليم والثقافة.
الكتابة أعمق من الوجاهة والجوائز
ينبغي ألا يكون هدف الكاتب الأساسي هو النشر، بل العمل على التوصل إلى نتاج مختلف، صياغة وموضوعات وبنية فنية. من هنا يأتي قلق الكاتب حيال كل كتاب جديد له. أقصد هنا الكاتب الذي لا ينظر إلى الكتابة بصفتها مدخلا إلى الشهرة والجوائز والنجومية والوجاهة الاجتماعية. فعل الكتابة أعمق من ذلك بكثير، وهو فعل وجود يحركه هاجس ورؤية.
لا، لم أشعر بالندم. لقد أدركت لاحقا أن شجرة الكتابة تنمو بلا توقف. فالكتابة مسار طويل لا يبدأ ولا ينتهي مع كتاب واحد، بل هو خيط نسيج يظل يلتف حول النول. وهكذا، فإن الكتاب الأول نستكمله في الكتب اللاحقة. ثمة شعور دائم بأن الكتاب المثالي الذي نبحث عنه يتعذر الوصول إليه، كفردوس مفقود نظل نبحث عنه طوال الحياة. هاجس الكمال سيطر على ذهن الكثير من الكُتاب والفنانين التشكيليين.
كان الفنان الفرنسي بيار بونار يدخل إلى المتاحف التي تعرض فيها لوحاته، ويتحين فرصة أن يكون وحده في الصالة التي علقت فيها إحدى هذه اللوحات، فيخرج من جيب معطفه ريشة صغيرة ويقوم بإضافة ضربة من هنا وأخرى من هناك، فالعمل الأدبي أو الفني أفق مفتوح إلى ما لا نهاية.