رحلة الأندلسي إبراهيم بن يعقوب إلى بلاد التشيك في القرن العاشر الميلادي
هناك العديد من الاجتهادات بمجال تناول سيرة ابن يعقوب الذي حل ضيفا في "فراغة" -كما كان يسميها- عام 965 واستمر فيها حتى عام 967 ميلادي، مغادرا إلى بلاد قرطبة دون رجعة
يحظى الرحالة العربي إبراهيم بن يعقوب بقدر كبير من الاحترام لدى المؤرخين التشيك، حيث اُعتبر المدون الوحيد على الإطلاق في النصف الأول من القرن العاشر؛ إذ نقل -وبعناية كبيرة ودقيقة- ملامح تشكيل مجتمع البلاد ووقائع الحياة التشيكية اليومية، وخاصة في العاصمة براغ التي سماها "فراغة" في منطقة "بويما والمعروفة اليوم بوهيميا، وهي منطقة تاريخية في أوروبا الوسطى تحتل الأجزاء الغربية ومعظم الأجزاء الوسطى من جمهورية التشيك الحالية.
وحسب الوثائق التاريخية التي اطلعت عليها الجزيرة نت بالمكتبة الوطنية التشيكية في براغ بقسم الأرشيف التاريخي القديم الذي يمنع استعارته من المكتبة لضمان بقائه كمادة توثيقية؛ بيّنت عدة اقتباسات لمؤرخين تشيك الوثيقة التي كتبها ابن يعقوب، وتُعتبر سندا تاريخيا نادرا للغاية يعود إليه كل من يبحث في تاريخ وتقاليد الأمة التشيكية، فضلا عما تضمنته من مسح جغرافي معماري لمدينة براغ في مطلع القرن العاشر.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمحمد مهدي الجواهري عاصر الملوك والرؤساء ومات منفيا.. وهذا سر طاقيته
ثيمته المنفى وسيرته الضوء وتميمته الترحال.. المصور العالمي جوزيف كوديلكا
من أجل أدب الأقلية.. دراسة الفرنسييْن دولوز وغواتري لأعمال الروائي التشيكي كافكا
مدونة ابن يعقوب
وتشير الاقتباسات إلى أن مدونة ابن يعقوب ورحلته في بلاد التشيك بين عامي 966 و967 تم الكشف عنها لأول مرة من قبل الباحثة التشيكية يرجينا شتيبكوفا من عام 1946 حتى عام 1955، حيث أوضحت كيف دون بحرفية الوقائع في براغ، مثل حياة المواطنين الاجتماعية بالأسواق الشعبية، والتجارة والطب، وأنه كان عين الخليفة عبد الرحمن الداخل الذي حرص على ربط بلاد الأندلس تجاريا -عبر أوروبا الوسطى- ببلاد الصين البعيدة، وقد اختار ابن يعقوب لتلك المهمة وهو على ثقة بنجاحه، حيث كان في وقتها يجيد اللغات والطب والتجارة، وكان صاحب حنكة في التصرف والتنظيم وإدارة الأسواق، وهو الأمر الذي ترك انطباعا جيدا لدى العامة بسمعته الطيبة.
ويصف ابن يعقوب "فراغة" -أي براغ- بأنها مدينة مصنوعة من الحجر الأسود والجص وبيوت الخشب الصلب، وهي أكبر مدينة في بويما -أي التشيك- يقصدها تجار غرباء من بلاد بعيدة، ويقسم المدينة نهر يعرف اليوم باسم فلتافا، وكان يصل بين الضفتين جسر خشبي يعرف اليوم بجسر تشارلز او كارلوف موست، في حين ينحدر من القلعة الكبيرة الكاتدرائية طريق يصل إلى السوق الشعبي.
وعبر الجسر في الضفة الثانية تبدو كنيسة فيشهراد؛ حيث كان يعالج فيها المرضى من الأمراض السارية وقتها مثل الحصبة والقرحة، وتتناثر بين الضفتين تلك البيوت التي قدرت بحوالي 350 بيتا، تربط بينها طرقات ضيقة جدا وأسواق للعامة، وقد نَقل استغرابه أيضا من تمازج العرق بين اللونين الأسود والأشقر في الشعر، وأن الأجداد لا يشبهون الأحفاد كون الأغلبية اليوم لونهم أشقر.
ومن تلك الاقتباسات أيضا تصحيح ابن يعقوب تاريخ استخدام الدينار الفضي في الحياة التجارية، حيث اعتقد بعض المؤرخين أن ذلك تم في أواخر حكم بولسلاف الأول (915-967)، أما ما دوّنه ابن يعقوب فهو أن الدينار الفضي كان مستخدما ولم يكن الوسيلة الوحيدة للتعامل اليوم، بل كان تبادل السلع وسيلة للبيع والشراء أيضا، مثل الدفع بالأقمشة أو الملابس، حيث كانت تنسج بعناية فائقة من الحرير ويتم مقايضتها بشراء العبيد أو الذهب أو الجياد.
ترجمة محترفة
ويؤكد البروفيسور لبوش كروباتشيك -الرئيس السابق لقسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة كارل الشهيرة في براغ- أن أستاذه العالم التشيكي المستشرق إيفان هربك -الذي ترجم العديد من الكتب الإسلامية إلى التشيكية ومنها القرآن الكريم- قد ترجم بحرفية تلك الوثيقة النادرة للرحالة العربي ابن يعقوب.
ويضيف كروباتشيك -في حديث للجزيرة نت- أن هناك العديد من الاجتهادات بمجال تناول سيرة ابن يعقوب الذي حل ضيفا في "فراغة" -كما كان يسميها- عام 965 واستمر فيها حتى عام 967 ميلادي، مغادرا إلى بلاد قرطبة دون رجعة، وفي وقت إقامته كان يحكم البلاد بوليسلاف الأول (دوق بوهيميا الذي يحظى باحترام المؤرخين التشيك باعتباره حاكما قويا عزز الدولة البوهيمية ووسع أراضيها وتجارتها وسك أول عملة محلية لبراغ).
وقد شملت رحلة ابن يعقوب دولا أوروبية عديدة، ونقل أنه التقى القيصر الروماني أوتو الأول (912-973) الذي كان أول إمبراطور لما سيصبح لاحقا الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت تسيطر أيضا على بلاد بوهيما، أي بلاد التشيك، وكان يفرض الجزية على الحاكم بوليسلاف الأول، وقد كتب عن تفاصيل لقائه بالقيصر أوتاو مستخدما التواريخ العربية والهجرية.
ويشرح كروباتشيك أكثر عن تلك الوثيقة التي كانت مشوقة ومميزة، ويقول لقد دوّن الرحالة ابن يعقوب أدق التفاصيل عن مدينة براغ، وحتى مسار مجاري فيضان نهر الفلتافا كتب عنها، ويعود له الفضل في استفادة بلدية العاصمة براغ في عشرينيات هذا القرن من تلك المعلومات لبناء مراكز تمنع وصول مياه فيضان النهر إلى المدينة القديمة في العاصمة براغ.
وحول اللغط في تحديد ديانة ابن يعقوب قال كروباتشيك إن الوثائق التاريخية لا تؤكد ولا تنفي أنه كان يهوديا كما يروج له البعض، بل كان مبعوثا خاصا للخليفة العادل عبد الرحمن الداخل الذي كان يحكم قرطبة، وقد اعتمده، وفيه العديد من الصفات التي كانت تشير إلى أنه عادل أيضا في حل المشاكل بين التجار، وعرف بأخلاقه الحميدة، وقد يكون اعتنق الإسلام.
ويلفت كروباتشيك إلى أن ابن يعقوب دوّن عن الشعب التشيكي وقتها، ونقل أنه شعب جاد في العمل، ولو لم يكن متفرقا إلى قبائل وتجمعات متصارعة لكان له شأن كبير في صد أي عدوان عليه، وأن نفوذ حاكمه بوليسلاف الأول كانت في محيط كل من مناطق بوهيميا ومورافيا وغرب سلوفاكيا وسليزيا وبولندا الصغرى وجزء من أوكرانيا.