الجمعيات والنوادي الرياضية.. من عتبات الحداثة إلى ساحات الاحتجاج
وتعود بدايات النادي الرياضي القسنطيني في الجزائر إلى نهاية القرن 19، قبل أن يتأسس بغطاء قانوني في العقد الثاني من القرن العشرين ويتبنى مواقف وطنية ضد الاستعمار، واستشهد الكثير من أعضائه خلال حرب التحرير الجزائرية.
وفي مصر، تأسست الأندية الرياضية في القاهرة والإسكندرية في العقد الأول من القرن العشرين؛ مثل نادي السكة الحديد 1903. في حين عرفت اليمن ناديها الأول "الاتحاد المحمدي" سنة 1905، الذي تحوّل اسمه إلى "التلال الرياضي" عام 1975.
وفي دراسته المنشورة في أغسطس/آب 2019 عن ثقافة الرياضة الشعبية في الشرق الأوسط، يرى الأكاديمي المختص في التاريخ الثقافي والاجتماعي للشرق الأوسط في جامعة ميشيغان مراد يلدز أن لعبة كرة القدم شكلت نشاطا ومجالا مدنيا مشتركا، وأكثر من ذلك يراها أساسية لتشكل الحداثة في المنطقة.
الرياضة نشاط مدني
وسعى يلدز إلى تتبع الثقافة الرياضية الشعبية في أواخر العهد العثماني، مستكشفا تحولاتها عبر الانقسامات العرقية والدينية واللغوية، ويرى أن سكان مدينة إسطنبول المتنوعين وغير المتجانسين شكلوا معالم للرياضة في المدينة بوصفها نشاطا مدنيا مشتركا، مؤكدا أن الرياضة كانت أساسية في التشكيل الحديث للمنطقة، وبنت الكثير من خطوط الانتماء الوطنية والمدنية.
وبدءا من أواخر القرن 19، نظر المعلمون والموظفون والناس العاديون -على نحو متزايد- للفرق الرياضية بوصفها "الدواء الشافي للمجتمع"، وعبر تحليله لدورها في بغداد والقاهرة وإسطنبول وطهران في فترة ما بين الحربين العالميتين، يرى يلدز أن الفرق الكروية شكلت نوعا من الاستمرارية المؤسسية عوضت غياب مؤسسات الإمبراطورية والفراغ المؤسسي للدولة.
ويضرب يلدز مثالا بالنادي الرياضي التركي "وفا"، الذي تأسس عام 1908، والنادي اليوناني في الإسكندرية وبورسعيد الذي تأسس في الفترة نفسها من بدايات القرن العشرين، ورابطة الشبان المسلمين بالقاهرة وغيرها من الأندية والجمعيات ذات الصفة الرياضية.
ويضيف أن وثائق وآثار هذه النوادي العريقة اختفت في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط نتيجة الإهمال وتشكّل الدول الحديثة والاضطرابات، ومع ذلك فإن أصول التجمعات الرياضية والأندية تعود لمرحلة الاستعمار، إذ لعبت دورا في تشكّل القوميات والثقافة الشعبية.
بداية الروابط التطوعية
ولاحقا أصبحت الأندية الرياضية جزءا من ظاهرة أوسع هي الروابط التطوعية، ونشأت الجمعيات الرياضية والأدبية والدينية والعلمية والسياسية مع تزايد القناعة بأن رجال الطبقة الوسطى المتوسعة يحتاجون إلى ملء "وقت فراغهم" بأنشطة مفيدة وأخلاقية، ولامست الرياضة حينها حياة كثيرين من النخب وغير النخب على حد سواء.
وفي عام 1894، نشرت مجلة "الهلال" -التي أسسها الأديب والمؤرخ جورجي زيدان كأول مجلة ثقافية شهرية باللغة العربية- تقريرا عن تشكّل الأندية الرياضية، وأشارت أيضا إلى تأسيس "ناد جديد" بواسطة مجموعة من أعيان القاهرة كمحاولة للقيام بأنشطة مفيدة والاستثمار في الوقت بعيدا عن "أماكن اللهو".
وفي الواقع، صاغ عشاق الرياضة حججا مقنعة لتأكيد أهمية الأندية الرياضية في مجلات مرموقة مثل "الهلال"، بينما كانت الأندية تخطو خطواتها الأولى في الشرق الأوسط، ومع ذلك ظلت الأندية تعاني لاكتساب الشعبية في بداية القرن العشرين قبل أن تتزايد شعبيتها بقوة خلال عشرينيات وثلاثينيات ذلك القرن، عندما تدفقت الجماهير إلى الملاعب لمشاهدة المباريات كما هي الحال اليوم.
الرياضة حديثا
ويرى مدير برنامج علوم الرياضة بجامعة قطر محفوظ عمارة أن الرياضة بدأت بوصفها مساحة تكميلية في المجتمعات الاستعمارية، لكنها سرعان ما أصبحت مجالا للمقاومة، ومن ثم مساحة يمكن أن تنتعش فيها المنافسة بين الأفكار.
لكن مؤلف كتاب "الرياضة والسياسة والمجتمع في العالم العربي" يلاحظ أن تلاعب الدولة العربية المفرط بالرياضة من أجل اكتساب الشرعية السياسية والهيبة الوطنية حوّل الساحات الرياضية إلى مساحات للشباب للتعبير عن إحباطهم واستيائهم من سياسات الدول العربية وإخفاقات مشروع التنمية.
ويعود عمارة لمثال الجزائر التي شهدت بدايات مبكرة للأندية الرياضية، فبينما كانت الرياضة مرتبطة بالاشتراكية وبناء الأمة بين عامي 1962 و1980، تحولت بحلول الأزمة الاقتصادية عام 1980 إلى مجال للتعبير عن الاستياء والسخط، وفي التسعينيات فقدت قدرتها على توحيد المجتمع، وتحوّلت لمجال للاستقطاب تأثرًا بأحداث العنف السياسي.
ويلاحظ المؤلف أن الرسائل التي تبثها كرة القدم لم تعد تدخل في نطاق الولاية الحصرية للدولة، مما يفتح المجال لانتقاد أنظمة وحكومات، وكذلك أشكال جديدة من التعبير الثقافي.