أرض جوفاء.. ديناميكيات الاستيطان الإسرائيلي وتمزيق الجغرافيا الفلسطينية تمهيدا لابتلاعها

صورة رئيسة تجمع بين غلافي نفس الكتاب “أرض جوفاء”
كتاب "أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" صدر للمرة الأولى عام 2007 وترجم إلى العربية بعد 10 سنوات (الجزيرة)

تكتسب الدراسة النقدية المعمقة للعمارة الإسرائيلية والتخطيط الحضري داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أهمية مضاعفة، في سياق رغبة حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المحمومة لضم المستوطنات في الضفة الغربية.

الكتاب الذي صدر للمرة الأولى عام 2007 للمهندس المعماري والكاتب الإسرائيلي إيال وايزمان بعنوان "أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي"، ونقله إلى العربية المترجم السوري باسل وطفة بعد صدوره بـ10 سنوات، يتكون من 9 فصول، تعد "سبرا أرشيفيا" يخوض في تاريخ وأسلوب عمل الآليات المختلفة، التي رسخت -وما تزال- نظام الاحتلال وممارسات السيطرة.

ويركز الكتاب على ديناميكيات الاستيطان ضمن سياق عسكرة المجتمع الإسرائيلي، الذي تبدو مظاهر الحياة فيه كالعيش في ثكنة عسكرية كبيرة تحكمها الاعتبارات الأمنية، مقارنا بين المستوطنات بعضها ببعض وطرقها الالتفافية في الضفة الغربية، التي تشبه حصون الإقطاع في أوروبا القديمة.

يشرح الكاتب دور "الهندسة المعمارية" ومساهمتها في وضع بُنى وتركيبة الاحتلال بجزئياته وتفاصيله في القدس، مشيرا إلى أن المهندسين هم سياسيون، ومعهم عسكريون وخبراء ونشطاء آخرون، ساهموا جميعا في "هندسة الاحتلال".

جذور الاستحواذ والهيمنة

يبدأ الكتاب بفصل صغير عن الإجراءات الاستيطانية الإسرائيلية بعد حقبة أوسلو في الضفة الغربية وغيرها، مؤكدا أن الاحتلال يستغل الجغرافيا بالكامل لصالحه، ويحوّل حياة الفلسطينيين لجزر مغلقة بالحدود والحواجز.

ويبين المؤلف أن منطق الفصل أو "الأبارتايد" ضمن المناطق الفلسطينية المحتلة، فاق منطق التقسيم على المستوى القومي بأشواط، وشكل توليفة هدفها إقصاء وتغييب كل ما له علاقة بالإرث التاريخي والمشهد الجغرافي والديموغرافي للفلسطينيين.

ويقدم الكتاب تحقيقا في التحول، الذي طرأ على المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، ويبحث في السبل التي رسّخت حضور القوانين الإسرائيلية بصيغها المختلفة في الحيز المكاني، ويحلل التصورات الجغرافية والمناطقية والمدنية والمعمارية إلى جانب الممارسات، التي أقامتها وعززت بنيانها.

ومن هذا الباب، يرسم الكتاب صورة عن ماهية الاحتلال الإسرائيلي وجذوره وتطوره، والآليات المختلفة التي يعمل بها، وفق العرض الذي قدمه الكاتب الصحفي محمود الفطافطة للجزيرة نت في وقت سابق.

ويكشف المؤلف الدلالات التاريخية والسياسية التي تستنبطها الوسائل الفاضحة للسيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. وفي هذا الإطار، يحلل مدلولات وأبعاد ونتائج تفاصيل نموذج المستوطنات، والمعمار المبهم للمنازل، وبناء التحصينات وأساليب الحصار، والآليات المحلية للتحكم بالتداول المالي وضبط السيولة، وتقنيات الخرائط ووسائل المراقبة، والتكتيكات القانونية لضم الأراضي، والأسلحة المتطورة عالية التقنية، ونظريات المناورات العسكرية المعقدة. وهذه جميعها تمثل مؤشرات على العقليات السياسية والصراعات المؤسساتية ومستوى الخبرات التي وطدها الاحتلال الإسرائيلي.

ويشير الكتاب إلى أنه بالرغم من أن السيادة السياسية تتمثل تقليديا في سيطرة الدولة على الحيز الأرضي، فإن المجال الجوي فوق الأراضي الفلسطينية هو الميدان السياسي الأكثر فاعلية، إذ أصرت إسرائيل في جميع المفاوضات السياسية على الاحتفاظ بالسيطرة على المجال الجوي فوق المناطق الفلسطينية.

ويتطرق إلى مسار الإستراتيجية الإسرائيلية بدءا من تأثير علم الآثار في تخطيط المدن، وإعادة صياغة مفهوم الدفاع على يد آرييل شارون خلال حرب 1973، ثم عبر تخطيط المستوطنات وأشكالها المعمارية، وصولا إلى الخطاب الإسرائيلي وتنفيذ حرب المدن والاغتيالات الموجهة من الجو.

وفي الفصل الخامس "نقاط التفتيش"، يناقش المؤلف ما يسميه "السيادة المشطورة"، واصفا السيادة الممنوحة للسلطة الفلسطينية بأنها هشة للغاية وخاضعة للتحكم الأمني الإسرائيلي الكامل.

وفي الفصل السادس، يناقش أرخبيل الحواجز والجدران الفاصلة التي قضمت الأراضي الفلسطينية ورسخت التوسع الإسرائيلي، ويتحدث عن الطرق العجيبة التي تربط الأراضي الفلسطينية المتبقية، وتسمح بتوسع المستوطنات باستمرار.

أما في الفصل السابع "حرب مدينية"، فيناقش الكتاب مصطلح "السير عبر الجدران"، متحدثا عن دخول القوات العسكرية الإسرائيلية إلى المخيمات، التي تمثل مكان إيواء للمقاومين عبر فتح الجدران واختراق البيوت، بينما يتحدث في الفصل الثامن "إخلاءات" عن تحدي قطاع غزة الذي حرصت إسرائيل -قبل الانسحاب منه- على ضمان إمكانية دخوله واحتلاله إذا اقتضى الأمر. وفي الفصل الأخير يناقش المؤلف طرق الاحتلال من الجو، التي تشمل الاغتيالات بسلاح الطيران للمقاومين على الأرض.

التحجير ووسائل التجريد

وفي فصل عن القدس بعنوان "القدس.. تحجير المدينة المقدسة"، يبين الكتاب أنه عقب احتلال المدينة عام 1967 تم وضع خطة شاملة لها، تضمنت رسومات وتعليمات شفهية هدفها ضمان وحدة القدس، وبناء المدينة على نحو يردع أي إمكانية لإعادة تقسيمها.

ويشير إلى أن هذه الخطة أسفرت على مدى 40 عاما من الاحتلال عن بناء 12 حيا يهوديا متباعدا ومتجانسا مع المناطق المحتلة المتضمنة في المدينة، وقد تم بناؤها بحيث تكمل حزاما من النسيج المعماري يطوّق الأحياء والقرى الفلسطينية الملحقة بالمدينة ويشطرها نصفين.

ويذكر المؤلف أن المناطق الصناعية أُقيمت خارج الأحياء الجديدة على هوامش المنطقة المحلية، بما يُبقي فلسطينيي الضفة الغربية -مورد القوة العاملة الرخيصة و"المطواعة"- بعيدا عن المدينة نفسها. ويوضح أن المقومات الأساسية للتخطيط والعمارة في القدس مثلت تكتيكات ووسائل للتجريد من الملكية، مضيفا أنه في ظل "الاعتباط"، الذي يتسم به نظام الاحتلال الإسرائيلي، "لا تخضع حياة المقدسيين وأملاكهم وحقوقهم السياسية إلى عنف مستديم نتيجة أفعال الجيش الإسرائيلي المتكررة فحسب؛ بل أيضا نتيجة تضييق الخناق عليهم في سياق عملية إعادة تشكيل مجالهم الحيوي على الدوام، وبصورة لا يمكن التنبؤ بها".

هذا التفكير تجلى في تحليل وايزمان لعشرات الخرائط والصور للخطط الإسرائيلية، التي أحبطت إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة أو قابلة للحياة عمليا. وقد شارك المهندسون والمخططون والسياسيون والجيش الإسرائيلي في وضع سياسات تتعلق بكل صغيرة وكبيرة؛ من شركات الكهرباء والمجاري والمياه والطرق والتجارة، وتنفيذها بكل الوسائل، وإن لزم الأمر عبر سياسات القتل والتهجير.

التعمية والتدمير

يعتبر المؤلف أن الجانب الثقافي أدى دورا إضافيا مهما في عملية الاستعمار الإسرائيلي لهذه المدينة، وتمثل في محاولة "تأهيل" المناطق المحتلة والملحقة، وتعديل مظهرها الغريب في نظر اليهود الإسرائيليين إلى موطن مألوف.

ويقول "إن العمارة جسدت لغة بصرية اتُخذت وسيلة للتعمية على حقائق الاحتلال، ولدعم مطالب التوسع المناطقي في محاولة لتعزيز السرديات القومية حول الانتماء، بالتوازي مع التضييق على السرديات الأخرى، أو حتى حجبها تماما".

وبإسهاب، يناقش الكتاب نظرية "التدمير المُخطط" من خلال أبرز نموذج؛ وهو تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي يوم 10 يونيو/حزيران 1967 أول عملية تغيير محلي نوعية في المناطق المحتلة، حين هدم حي المغاربة بأكمله، وقام الجيش بعملية الهدم هذه بدون أمر حكومي مُعلن.

ويبين أنه بعد شهرين من احتلال إسرائيل للقدس أُعلنت البلدة القديمة برمتها موقعا أثريا يُمنع البناء فيه بغرض إجراء المسح الأركيولوجي، الذي لم يمثل ذريعة "لعودة" إسرائيلية تحتل الأراضي الفلسطينية فحسب؛ بل "موطئا" لحق تاريخي أصيل أمكن تطويره إلى نموذج بناء على يد المعماريين الإسرائيليين.

ووفق المؤلف، فإن علماء الآثار التوراتيين الإسرائيليين "عملوا على ليّ عنق التاريخ عبر تهميشهم للمكتشفات في الطبقات الأعلى والأحدث، التي تعود إلى العصور الإسلامية والعثمانية خلال عمليات الحفر، وفي المتاحف أيضا، إذ يعمدون إلى صرف النظر عنها باعتبارها تمثيلات لمراحل تاريخية خاملة، وتُنبذ بذريعة أنها حديثة للغاية، أو تُترك نهبا للتحلل والبوار".

الترحيل والقنبلة

وقد تمثّل هذا الفعل (ليّ عنق التاريخ) باستخدام علم الآثار التوراتي لإضفاء الشرعية على الزعم القائل بأن العمارة الفلسطينية المحلية يهودية في الأصل، كما سوغت تعريف "الأسرلة" بوصفها ثقافة محلية "أصيلة" استأثر بها الوافدون الفلسطينيون الجدد، وشوهوا ملامحها.

ويرى الكتاب أنه في خضم مساعيهم لإرساء المعايير السكانية والجغرافية ضمن الخطط الشاملة، أسهم المخططون والمعماريون في بلدية القدس -إلى جانب العاملين لمصلحتهم- في السياسة القومية القائمة على التهجير القسري، الذي يُعتبر جريمة وفقا للقانون الدولي، ويُشار إليه ضمنا في الدوائر الإسرائيلية على أنه "الترحيل الصامت".

ويوضح أن المهمة، التي أُلقيت على عاتق المعماريين والمصممين الإسرائيليين ضمن الحدود المحلية للمدينة، لم تكن تتلخص في بناء المنازل والعمل على تطوير "النمط القومي" الجديد فقط؛ بل أيضا في الحفاظ على "التوازن السكاني"، الذي كان معدله ضمن الحدود التي أعيد ترسيمها خلال حرب 1967؛ 3 يهود مقابل فلسطيني واحد.

ووفق وايزمان، فإن المخططين الإسرائيليين سعوا إلى تجميع مكانين جغرافيين منفصلين ومتداخلين، وفق مبادئ تمنع التقاطع المباشر أو التقاء المستوطنين والفلسطينيين مباشرة؛ مناطق للمستوطنين في الأعلى منتشرة على التلال المطلة المنتقاة بعناية والموصولة بطرق حديثة جيدة، ومناطق أخرى للفلسطينيين مزدحمة تتكون من المدن والبلدات والقرى أسفل التلال وفي سفوح الجبال والوديان والمنخفضات.

وفق ذلك، فإن المستوطنات تشكل حواجز بين الفلسطينيين والمقدسيين كذلك في المناطق الجبلية المأهولة من ناحيتي الشرق والغرب، وتجزئتها عبر حركة المرور شرقا باتجاه إسرائيل وغربا وبالعكس، وما يلزمها من طرق عريضة محمية من الجيش والمستوطنات المقامة بالقرب منها والمطلة على هذه الطرق، التي تتقاطع مع طرق فلسطينية قديمة؛ مما سينتِج عددا من التجمعات الفلسطينية المعزولة حول المدن الكبرى موصولة بعضها ببعض عبر إشراف إسرائيلي كامل.

المصدر : الجزيرة

إعلان