بلاد الغربة والمذاهب الأدبية.. مبدعون عرب يروون تأثيرات الهجرة على كتاباتهم
جيل جديد من الكتّاب ولدوا ونشؤوا في ظل المحنة العربية التي نعيشها اليوم، مما قد يعني كتابة جديدة قد تقود إلى تأسيس مذاهب أو مدارس أدبية مختلفة تعزز قيمة أدب الحرب والسجون، وأدب اللجوء والمنفى
رحل الأدباء وحملوا معهم العديد من الأسئلة حول مستقبلهم الإبداعي، وفي أعقاب موجات الهجرة الأخيرة أثيرت تساؤلات من قبيل إمكانية الاستمرارية رغم الظروف المعاكسة، وهل أفرزت هذه الهجرات الكبيرة أدبا مميزا أو مذاهب أدبية تذكرنا بالرابطة القلمية وأدباء الأميركتين مثل جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي، أم أن ظروف الهجرة القسرية تختلف؟ وهل يمكن أن نتوقع مدارس ومذاهب جديدة ضمن أدب المنافي؟
الكتابة وتغير المناخات
عن الكتابة في حالة تغير المناخات والأماكن يعتقد الكاتب والشاعر العراقي المقيم بسلطنة عمان عبد الرزاق الربيعي أنه رغم أهمية الأمكنة فإنها ليست العامل الوحيد، ويوافقه الرأي الكاتب السوري المقيم في كندا عبد الرحمن مطر بقوله إن "الكتابة هي فعل حياة مثلما هي طوق نجاة، وتوق لتحقيق منجز إبداعي يكون معبرا عن انشغالات الكاتب، خاصة في ظل ما يعيشه من معاناة غير مسبوقة في عالمنا العربي".
اقرأ أيضا
list of 3 itemsأدب اللجوء أم المنفى؟.. موجة الكتابة الجديدة بعد الربيع العربي
الأدباء العرب في المهجر يلتقون بالجزائر
ويضيف مطر "في ظل الترحال القلق الذي يعيشه الكاتب العربي بسبب مصادرة الحريات والحقوق -وفي مقدمها حرية التعبير بصورة غير مسبوقة في العشرية الثانية للقرن الـ21 من قبل أنظمة الاستبداد والجماعات المسلحة المتشددة على حد سواء يتعرض خلالها الكتاب إلى الملاحقة والاعتقال والتصفية- فإن الكتابة تبقى هي الملاذ الأكثر أهمية، كي ينقذ فيها الكاتب نفسه من سطوة الآخر الذي يسعى إلى إخماد صوته، وأن ينقذ كتابته من الاستسلام للظروف القاهرة، ومن جملتها تغير المناخات التي تفرض عليه تغيرات شتى، في الرؤية، وفي النظر للأمور بعين مختلفة، وبتصورات ذهنية متغايرة عما اعتاد عليه".
ويخلص إلى القول "تتجلى هنا الأهمية الضرورية، لقدرة الكاتب على تجاوز محنة التغيرات التي تلم به، وتبرز مقدرته الإبداعية في الأخذ بما توفره البيئات الجديدة من حريات في التعبير والكتابة لا حدود لها، كتابة جديدة".
بينما تؤمن الكاتبة الأكاديمية المقيمة في الولايات المتحدة الأميركية وجدان الصائغ بأن في التحول المكاني فائدة، وتعلل ذلك بالقول إن "الكتابة طقس من طقوس الحياة للكاتب، وتغير مناخات الكتابة يوقد جذوتها، فتغير المناخ المكاني يولد إحساسات متباينة بين أقصى الإحساس بالنفي إلى أقصى الإحساس بالانتماء إلى المكان الجديد بناسه وثقافته".
وعن أثر ذلك فيها، تضيف الصائغ "أزعم أن تغير المكان أضاف لي بقدر ما أخذ مني، أخذ مني فكرة الاستقرار وجعلني أحمل حياتي وذكرياتي بحقائبي، ولكنه منحني سانحة التجوال في مدارات جديدة وأقصد الإبداع العربي، فخرجت من دائرة المحلية إلى العربية، تغير المناخ السياسي يولد إحساسات متباينة عند الكاتب، فهي تغيرات تجعله في مهب الريح وبكل اتجاه حين يتحسس بنفسه تحولات الحلم إلى كابوس، وحين يلمح جراح الأمس قد غدت نثارا وعبئا ثقيلا لا طموحا بواقع أفضل".
وتوافقها الكاتبة القاصة الليبية المقيمة في كندا عزة المقهور، والتي تقول إن "الكتابة عادة لا يسبقها تفكير، تقتحم الكتابة تفكيرنا دون استئذان، بل تسيطر عليه وتوجهه أحيانا، المناخ لا يهم كثيرا في رأيي، وإن حظي بأهمية فيكون ذلك حين يثير الذاكرة أو ينشطها أو يستحثها أو يشحذها".
المهجر واستحداث المذاهب
وعن إمكانية استحداث مدارس أو مذاهب جديدة في الغربة، تؤكد القاصة عزة المقهور إمكانية ذلك، حيث تقول إنها تتأسس كل يوم "فتكنولوجيا الاتصالات أسست مدارس أدبية، وما إدراجات الفيسبوك وتغريدات تويتر إلا واحدة منها، والحروب الأهلية والنزاعات الداخلية التي تلهب المنطقة بعد حقبة أدب الاحتلال وأدب السجون لا بد أن تنتج مدارس ستجد تسميات وقوالب لها قريبا".
وهذا ما يميل إليه الكاتب عبد الرحمن مطر أيضا، حيث يقول "راهنا، تعيش الكتابة تحولات مهمة ومخاضات كثيرة وظهور أجيال جديدة من الكتاب لها ثقافتها ورؤيتها المختلفة والجديدة، على غرار جيل الستينيات الذي وضع أسسا لحركة ثقافية عربية جديدة بالمعنى الحداثي، وأنتجت تجارب الستينيات أدبا ونقدا مميزين".
ويضيف مطر "بل إن جيلا جديدا من الكتاب ولد ونشأ في ظل المحنة العربية التي نعيشها اليوم، ولدت إبداعاتهم في المخيمات والمعتقلات وأماكن النزوح وبلدان اللجوء، ومن الطبيعي أن تقود تلك التجارب إلى كتابة جديدة قد تقود إلى مذاهب أو مدارس أدبية جديدة، ربما، لكنها ستعزز من مكانة وقيمة أدب الحرب والسجون، وأدب اللجوء والمنفى بشكل أساسي".
لكن الناقدة وجدان الصائغ لا تؤمن بوجود مذاهب أدبية من الأساس، وتفسر ذلك بالقول "لم أجد مدارس أو مذاهب في الأدب العربي على الرغم من طول مكوثي في الساحة النقدية، لأن المدارس والمذاهب لها سياقاتها الاجتماعية والثقافية، وللأسف المشهد الإبداعي العربي شئنا أم أبينا انعكاس للمشهد السياسي، وأقصد هنا البروباغندا الإعلامية العربية".
وتماهيا مع السؤال، تقول الصائغ "يمكن أن أقول إن خرائط الحزن هي المسيطرة على القصيدة المعاصرة، وتحديدا العراقية، وإن الجرأة في طرح الإشكاليات الاجتماعية هي المهيمنة على السرد العربي".
بدوره، ينفي عبد الرزاق الربيعي علاقة المذاهب بالغربة بدافع الاستحداث، فيقول إن "المذاهب لا علاقة لها، بعضها قضت على الروح المبدعة بسبب معاناة المهاجرين، ومتاعب الغربة، والابتعاد عن المحفزات الخارجية، كالتواصل مع دور النشر والصحف والمؤسسات، إذا كان الشاعر أو الكاتب يقيم في دولة أجنبية لكنها أوجدت مدارس ومذاهب، فكانت الغربة دافعا، حاليا لا أظن، فالغربة بدأت تذوب مع التواصل، والتطور التكنولوجي، والعالم سرعان ما تحول إلى "قرية صغيرة".
اختلاف مهاجري اليوم
هل يختلف الأدباء المهاجرون في الأمس عنهم اليوم؟ يؤمن عبد الرحمن مطر باختلافهم الجوهري، ويبرر ذلك بالقول إن "أدباء اليوم ليسوا أدباء مهجر، بل أدباء لاجئون في المنافي، أدباء المهجر تختلف ظروف هجرتهم -كما هو معروف- عن أسباب هجرة مئات من الكتاب العرب خلال نصف قرن، معظمهم خلال السنوات العشر الأخيرة، هم اليوم لاجئون، منفيون قسرا عن أوطانهم، ومنتجهم الأدبي مختلف جذريا عن النتاج الأدبي المميز الذي أنتج مدرسة أدبية "أدب المهجر"، أدباء اليوم هم كتاب في المنفى، وملامح نشوء تياراتهم الجديدة آخذة بالتشكل اليوم، خاصة في ظل انتشارهم المهول في شتى جهات الأرض ومنافيها".
وبخصوص موضوعات انشغالاتهم يقول "تختلف الموضوعات التي ينشغل بها المبدعون، من الحنين إلى البلاد والأهل إلى التعبير عن معاناة القهر والظلم والاستبداد، تتغاير الصورة من الأشجان التي يثيرها سقوط الثلج لدى رشيد أيوب أو ميخائيل نعيمة، إلى صورة الضحايا في المخيمات وفي العراء، تحت الثلج أو المطر، بسبب القتل والتهجير الذي تمارسه سلطات القمع في سوريا، كمثال قابل للتعميم، كاتب المنفى تشغله اليوم قضايا الحرية، والهروب من الموت، وحكايات المعتقل مثلما تشغله قضايا الناس وحكاياتهم في الحب والحياة والمجتمعات الجديدة".
وقياسا على ذلك، تقارن عزة المقهور بين الأمس واليوم "أدب المهجر نوع من الأدب الذي ظهر ما بين الحربين العالميتين، وتأثر بالمدرسة الرومانسية الأوروبية، وأثر وأثرى الأدب العربي وكان فرسانه جبران ونعيمة وأبو ماضي بارعين في التكيف مع محيطهم الجديد والتمسك بلغتهم وثقافتهم في آن واحد، فشكلوا همزة وصل وثيقة تمكنت من النهضة بالأدب العربي ومن تمهيد الطريق لثورة الشعر الحر، أما اليوم ومع تطور الاتصالات وسرعتها وسهولة التنقل فإن هذا المصطلح لم يعد بذات الوقع والمعنى".
وتختم المقهور بالقول "يعيش المهاجر غربته وهو قريب من موطنه وعالم بما يجري فيه وملامسا لأحداثه، لا يمكن اليوم أن يموت جبران قبل أن يلتقي بمي زيادة أو ينتظر أشهرا لتصل إليه رسالتها".
أما الناقدة وجدان الصائغ فتختلف مع الجميع وتفترض التشابه التام، وترى أنه "لا اختلاف بين مبدع الأمس اليوم كما لا يختلف جلجامش اليوم عن جلجامش الأمس في بحثه عن عشبة الأمان".
أدب مهجر أم منفى؟
وبشأن إدراج كتابات المهاجرين اليوم تحت أدب المهجر أم المنفى، تعتقد وجدان الصائغ أن هذه التسميات "هي مسميات مدرسية قرنت في ذهني أن أدب المنفى هو أدب معارض، وأن أدب المهجر هو أدب لجماعة أبعدت عن أمكنتها الحميمة تقفز مباشرة إلى ذهني صورة جماعة المهجر وجبران وأخوته، لكني لا أجد ذلك متفقا معي أنا شخصيا، فأنا لست منفية لأن النفي مسمى سياسي بحت لا علاقة لصلة المبدع بأمكنته التي شهدت طفولته وصباه، ولست مهاجرة لأني أمكنتي التي أعشق ما زالت تتربع عرش القلب".
ولا تشعر بالانتماء لكليهما "مطلقا فما زلت رغم ثلوج القارة الأميركية أحمل صنعاء وبغداد في حنايا القلب وأكتب عن أدبائها وكأنهم معي، وربما أذابت وسائل التواصل الاجتماعي الإحساس ببعد الدار والديار، لذلك لا أجدني أشبه ابن زريق البغدادي في محنته، ولا حتى المتنبي في بحثه الدائب عن صولجان المكان، لأن المكان باختصار معي في حلي ومرتحلي".
ويتناسق ذلك تماما مع رأي عبد الرزاق الربيعي الذي لا يعتبر المدارس الأدبية العربية تقسيمات نقدية، بل" أقرب ما تكون إعلامية، فالمنفى مفهوم مجازي وشعري أكثر مما هو واقع فعلي، كما أن المهجر تشظى، وصرنا نهاجر تحت جلودنا، لنترك أزهار النصوص تتفتح في ربيع القصيدة بلا تأطيرات نقدية، ولنترك الحكم للزمن والمتلقي".
في حين يطالب عبد الرحمن مطر بإدراج كتابات مهاجري اليوم تحت تأطير "أدب المنفى"، حيث يقول "بالنسبة لي، أدرك قيمة التمييز ككاتب في المنفى، بين أن تندرج نصوص المهاجرين اليوم تحت مسمى "أدب المنفى" وأن نجتهد في استخدام هذا المصطلح، لأنه الأكثر تعبيرا عن حالنا، نحن لاجئون، كتاب في المنفى القسري، ولم يكن لنا خيار في ذلك، وكتابتنا من الطبيعي أن تكون في أحد معانيها أو قيمها أو سماتها: كتابة المنفى، تعبر عنها وتبوح بها نصوصنا، أيا كانت صورتها ووسيلتها والتحديات التي يواجهها الكاتب في مجتمعه الجديد".
ويضيف "إنها تضج بهواجس الكاتب اللاجئ وقضاياه، وبروح المنفي الذي لا حدود لقلقه، وآلامه وأحلامه".