رهين المحبسين أبو العلاء المعري وجدل أكل الحيوان في العصور الوسطى

تعكس مواقف الأديب العباسي شيخ معرة النعمان أبو العلاء المعري (363هـ-449هـ) (973م-1057م) وكتاباته قبل حوالي ألف عام جوهر الأفكار التي ينادي بها النباتيون والمدافعون عن حقوق الحيوان اليوم، حيث كان يشدد على عدم إيذاء الحيوانات من أجل رفاهية الإنسان.
في تقرير نشرته مجلة "بروسبكت" البريطانية، يقول الكاتب كيفن بلانكينشيب إن شهر مارس/آذار الماضي شهد حدثين يكشفان الفرق الشاسع بين حقوق الحيوان على مستوى القوانين والتشريعات، وبين الممارسات البشرية التي تتحدى تلك القوانين بشكل صارخ.
اقرأ أيضا
list of 3 itemsالمعري بلغة العصر.. هل تحتاج "رسالة الغفران" للتبسيط؟
ضريح المعري بإدلب تحت قذائف النظام السوري
ففي 12 مارس/آذار، أقر مجلس العموم البريطاني مشروع قانون رعاية الحيوانات، والذي تصل بموجبه عقوبة الإساءة إلى الحيوانات إلى السجن 5 أعوام.
وبعد أسبوع، ورغم القيود المفروضة بسبب جائحة كورونا، دخل مجموعة من المتدينين الهندوس إلى معبد "كودونغالور بهاغافاثي" جنوبي الهند، وذبحوا عددا من الديوك، في تحد لقانون عام 1968 الذي يحظر ذبح الحيوانات لأغراض الطقوس الدينية (دون حاجة للطعام).
ويؤكد الكاتب أن التاريخ البشري عرف عديد الشخصيات المؤثرة التي دعت إلى الرفق بالحيوانات، مثل القديس فرنسيس الأسيزي وبوذا وليوناردو دافنشي الذي رفض أكل اللحوم لأسباب أخلاقية، لكن أحد أعلى الأصوات دفاعا عن الحيوانات لم يحظ بالتقدير الكافي في الغرب.
رهين المحبسين وشيخ المعرة
ويرى الكاتب أن أبا العلاء المعري -المفكر العربي الضرير والزاهد الذي اشتهر برسالة الغفران- ترك إرثا كبيرا في مجال الدفاع عن حقوق الحيوان، يستحق العودة إليه بكثير من التقدير في العالم الغربي.
وفقا للمعايير الحديثة، كان المعري شخصا نباتيا شديد الالتزام، وهو أمر نادر في العالم الإسلامي خلال العصور الوسطى، وكان يعتقد أن إلحاق الأذى بأي من الكائنات الأخرى شيء مرفوض.
في إحدى قصائده، حث الشاعر الذي يلقب برهين المحبسين (محبس العمى ومحبس البيت؛ إذ اعتزل الناس في إدلب لفترة طويلة) على تجنب أكل اللحوم وجميع المنتجات الحيوانية، وكتب قائلا:
"فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
وأبيض أمّات أرادت صريحه لأطفالها دون الغواني الصرائح
ودع ضرب النحل الذي بكرت له كواسب من أزهار نبت فوائح
فما أحرزته كي يكون لغيرها ولا جمعته للندى والمنائح".
ويضيف الكاتب أن المعري لم يكتف بمجرد تقديم النصيحة والحث على عدم أكل اللحوم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك في "رسالة الصاهل والشاحج"، وهي عمل نثري ظهر قبل ألف عام، وتضمن شخصيات حيوانية تتحدث عن الدين والشعر والمجتمع عشية الحملات الصليبية. وفي الرسالة، يدافع الحصان عن بقية الحيوانات منددا بما تلاقيه من معاملة قاسية من البشر.
ويعارض المعري في رسالة "الصاهل والشاحج" تربية الماشية بهدف أكل لحومها وصيد الغزلان البرية وذبح الجمال خلال الرحلات الطويلة لشرب السوائل التي تختزنها في جوفها.
ويشرح المعري فكرته في رسالة إلى الداعية والشاعر المؤيد في الدين الشيرازي، الذي اتهمه بمخالفة التعاليم الإسلامية التي تجيز أكل الذبائح، حيث يقول المعري "لم يزل من يُنسب إلی الدّين يرغب في هجران اللحوم، لأنها لم يوصل إليها إلا بإيلام حيوان، يفر منه في كل أوان".
ظلال السياسة
وشرح تقرير سابق للجزيرة نت، بتفصيل أكبر، الفلسفة النباتية في شعر الشيرازي والمعري في 5 رسائل كتبت بلغة أدبية فصيحة.
وعرف عن المعري سلوكه طريق الزهد، لكن داعي الدعاة الفاطميين الشيرازي حاول إلصاق تهمة المانوية أو التأثر بالديانات الشرقية به، معتبراً أن زهده ليس إسلامياً وإنما يحمل تأثيرات هندية ونظرة مختلفة عن الآخرة.
وترى فلسفات وديانات شرقية مثل المانوية أن جسد الإنسان مصدر الشرور ويجب إضعافه، ودعا ماني المولود في بابل إلى تحريم اللحم "الذي ينشأ من الشيطان" وزهد في الوجود وصام ليضعف بدنه وامتنع عن الزواج وذبح الحيوان.
وكان المؤيد يعمل قريباً من البلاط الفاطمي بالقاهرة واستخدم الشعر كسلاح قوي في الترسانة الفاطمية الدعائية، وكان قراره بمواجهة المعري أكبر من مجرد تصحيح آراء الأخير، وإنما كان جزءا من عمل المؤسسة التي أنشأها الخليفة الفاطمي بالقاهرة وعملت كمنظمة دينية وسياسية لنشر مذهب الفاطميين في عالم إسلامي متعدد المراكز والمدن الكبرى، بحسب دراسة المؤلف كيفن بلانكينشيب، الأكاديمي بجامعة بريغهام يونغ الأميركية، الصادرة عن منشورات بريل.
وشهد ذلك العصر تنافسا سياسيا محموما بين العباسيين السنة في بغداد والفاطميين الشيعة بالقاهرة، إضافة للأمويين الذين حكموا الأندلس من قرطبة.
ومثلت مناطق التنازع بين الخلافات الثلاث تنافساً للسيطرة امتد للجوانب السياسية والعسكرية والدبلوماسية، وشمل التنافس المثقفين والأدباء.