"الطوبونيميا النبطية": ذاكرة الأسماء في بلاد الأنباط

المؤرخ البيزنطي أميانـوس ماركيلينوس المولود في 330م قال في وصف أرض الأنباط "وعلى تخوم فلسطين بلاد العرب التي يحدّها من الجانب الآخر الأنباط، وهي أرض غنية ببضائعها المتنوعة، ومزودة بحصون وقلاع قوية، حرصت الشعوب القديمة على إقامتها عبر ممرات جبلية ضيقة لتكون مناسبة لصدّ هجمات الشعوب المجاورة".

مواقع من البتراء -صور من تصوير الكتاب الدكتور زياد السلامين
صور لموقع البترا من تصوير المؤلف المشارك في الكتاب زياد السلامين (الجزيرة)

في بحث تاريخي اعتمد على مخطوطات البحر الميت والبرديات النبطية والكتب التي وضعها مؤرخون عبر العصور المختلفة، أنجز الباحثان الأكاديميان زياد السلامين وإخلاص القنانوة دراسة عن أسماء المواقع الجغرافية التي عرفها الأنباط، وقد صدرت أخيرا في كتاب بعنوان "الطوبونيميا النبطية" (مطبعة السفير)، ضمّ 3 فصول ومبحثين مع جداول وملاحق مختلفة.

ويتضمن الكتاب بحثًا معمقًا في أسماء المواقع الجغرافية في الكتابات النبطيّة، وأسماء هذه المناطق في المصادر التاريخية القديمة وفي المراجع الكلاسيكية اليونانية واللاتينية، كذلك يفرد الباحثان مبحثًا خاصًا بالأنباط وبلادهم في المعجم البيزنطي للفقية اللغوي اليوناني إستيفانوس المعنون بـ"إثنيكا" أي الأعراق، الذي وضع في القرن السادس الميلادي، ويقع هذا المعجم في 60 جزءًا ويعدّ موسوعة لأسماء الشعوب والمواقع والأقوام في العالم القديم.

والكتاب، كما تقول المؤلفة القنانوة في حديث إلى الجزيرة نت، "دراسة لغوية تاريخية لأسماء المواضع الجغرافية الواردة في الكتابات النبطية من نقوش وبرديات، بالإضافة إلى الأسماء المنسوبة إلى مواضع جغرافية والواردة أيضًا في الشواهد الكتابية النبطية، والأسماء الجغرافية وأسماء الشعوب والقبائل التي وُسمت بالنبطية، أو اتصلت بالأنباط بصورة أو بأخرى، في المصادر والكتابات التاريخية الكلاسيكية اليونانية واللاتينية".

أما الطوبونيميا، حسب الكاتبة، فهي "لفظة يونانية تعني (اسم مكان)، وهو فرع من فروع علم دراسة الأسماء (الأونوماستيكس) عمومًا، وتختص الطوبونيميا بتتبع أصول وجذور واشتقاقات وأشكال الصيغ المختلفة لأسماء المواضع الجغرافية، في محاولة لفهم سياقات التسمية المختلفة؛ اللغوية والتاريخية والدينية".

والمواقع التي درسها المؤلفان الأردنيان تمتد على أرض الأنباط التي وصفها المؤرخ البيزنطي أميانـوس ماركيلينوس المولود في 330 للميلاد بقوله الذي يرد في الدراسة "وعلى تخوم فلسطين بلاد العرب التي يحدّها من الجانب الآخر الأنباط، وهي أرض غنية ببضائعها المتنوعة، ومزودة بحصون وقلاع قوية، حرصت الشعوب القديمة على إقامتها عبر ممرات جبلية ضيقة لتكون مناسـبة لصـد هجمات الشـعوب المجـاورة، وتمتلك هـذه المنطقة أيضًا إضافة إلى بعض المدن، مدنا عظيمة مثل بُصرى، وجرش وفيلادلفيا المنيعة بسبب أسوارها القوية، ومنحها تراجان لقب ولاية".

كتاب "الطوبونيميا النبطيَّة: دراسة في أسماء المواقع الجغرافية في ضوء المصادر التاريخية ومخطوطات البحر الميت" (الجزيرة)

بين البرديات النبطية ومخطوطات البحر الميت

اعتمدت الدراسة على البرديات النبطية ومخطوطات البحر الميت، وعن العلاقة بينهما تجيب الباحثة "لا علاقة البتة بينهما باستثناء اكتشاف المجموعتين في كهوف ضمن نطاق جغرافي ضيق. وثمة اختلافات عظيمة في البنية اللغوية والأدبية لهاتين المجموعتين من الوثائق؛ فمخطوطات البحر الميت ذات سمات دينية بمجملها، أما المخطوطات المكتشفة في كهف الرسائل، ولا سيما المكتوبة بالنبطية، فذات صبغة تجارية. كما أن الامتداد الزمني لمخطوطات البحر الميت، التي تقارب الألف مخطوطة، أوسع؛ إذ يعود أبكرها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، أما وثائق كهف الرسائل محدودة العدد فكُتبت في مدة زمنية لا تتجاوز 40 عامًا".

فما هي البرديات النبطية إذن؟ تبيّن القنانوة أنها "مجموعة من الوثائق المكتوبة بالنبطية واليونانية التي تعود إلى امرأة اسمها باباثا. وأطلق المشتغلون على هذه الوثائق اسم (أرشيف باباثا)، وثوثق هذه البرديات عددًا من العلاقات والتعاملات التجارية بين اليهود والأنباط في المرحلة بين نهاية القرن الأول والثلث الأول من القرن الثاني الميلاديين".

وتتابع "اكتشفت هذه الوثائق ضمن مجموعات أخرى من الوثائق التي تؤرّخ لثورة على الرومان عرفت بـ(ثورة بار كوخبا)، في كهف الرسائل على الشاطئ الغربي للبحر الميت. وباباثا هذه امرأة غنية امتلك والدها مساحات كبيرة من الأراضي في المنطقة المحيطة بغور الصافي على الطرف الجنوبي الشرقي للبحر الميت".

أهمية أسماء الأماكن التاريخية

وعن أهمية فهرسة أسماء المواقع التاريخية اليوم تقول الباحثة "نحن أحوج ما نكون إلى الدراسات اللغوية التي تتطرق إلى تفاصيل دقيقة، كدراسة أسماء الأعلام أو دراسة أسماء المواضع، أو أي شكل من أشكال الدراسات المعجمية المقارنة. وتصنيف نوع معجمي واحد من المادة اللغوية (أسماء المواضع في هذا الكتاب) قد يسهم في فهم سياقاتها فهمًا أوسع، ولا سيما أن التناول يكون أدقّ وأشمل".

من جهة أخرى، يذكر الباحثان في مقدمة الكتاب أن "أسماء الأماكن جزء من ذاكرة الشعوب كما أن دراستها تزودنا بمعلومات عن الطبيعة الجغرافية والطبوغرافية والجيومورفولوجية للمكان وبيئته القديمة، كما تمدّنا مثل هذه الدراسات بمعلومات إضافية عن مراحل السُكنى البشرية فيه وتنوعها وهي تمثل جزءًا أصيلًا من موضوع دراسة الجغرافيا التاريخية القديمة، ولها أهمية في الأبحاث التي تُعنى بدراسة اللغات واللهجات القديمة وعلم اللغة المقارن، التي تعيننا بدورها على الإحاطة بالجوانب الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية والحضارية المختلفة للمكان وسكانه. وتكون الأسماء الجغرافية غالبًا أقدم وأشد غموضًا من أسماء الأعلام، لأنها تعود إلى زمن موغل في القدم، وهي أكثر ما تكون وصفًا لطبيعة الأرض والمكان وهذا الوصف يلازمها ولا يتغير في الغالب".

الدراسات اللغوية في المكتبة العربية

وعن حضور مثل هذه الدراسات في المكتبة الأكاديمية العربية، تلفت القنانوة إلى أن "هناك دراسات متفرقة مكتوبة باللغة العربية عن أسماء المواضع بعضها منشور على شكل مقالات في دوريات محكَّمة، وبعضها الآخر دراسات بحثية غير منشورة لطلبة الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه"، مشيرة إلى أن "الاهتمام بهذا النوع من الدراسات باللغات الأوروبية يتجاوز مثيله العربي بمراحل".

وتظهر هذه الدراسة أهمية الالتفات إلى الدراسات اللغوية الساميّة المقارنة ضمن الإطار الحضاري اللغوي الأوسع، ومن هذا الباب برزت أهمية الاتكاء على المادة اللغوية لمخطوطات البحر الميت، إذ تؤكد القنانوة أن "هذه الدراسة من الدراسات القليلة باللغة العربية التي استعانت بمخطوطات البحر الميت بغية المقارنة اللغوية وتتبع تطور الصيغ. كما أظهرت أهمية البحث في المصادر الكلاسيكية لا سيما اليونانية، للنظر في المنهج بمزاياه ومثالبه الذي استخدمه الكتَّاب الكلاسيكيون في تناول هذا الجزء من العالم. وربما مهد هذا الكتاب الطريق لباحثين آخرين للنظر في أسماء المواضع في كتابات سامية أخرى متبعين المنهج البحثي نفسه".

واستغرق العمل على الكتاب سنتين تقريبًا، سبقته مرحلة جمع المادة وتصنيفها من مصادرها الأولى. وتُعد الإحاطة بالأدبيات المختلفة، ولا سيما تلك المنشورة بلغات غير متداولة على نطاق واسع من أهم الصعوبات التي تواجه الباحثين في هذا الباب.

وفي حديثه السابق للجزيرة نت، قال وزير الثقافة الأردني الخبير بتاريخ الأنباط، الدكتور باسم الطويسي، "تأسست في البترا الأبجدية العربية"، ولا تتوقف البترا في حدودها المعروفة الآن بل "امتدت حدودها إلى أرض الرافدين وحمص ولبنان وأطراف مصر، وكانت مركزا للتجارة العربية وإحدى طرق الحرير التاريخية العالمية، ويمثل عصر الأنباط أكثر مراحل الثقل التاريخي في إنتاج الثقافة المادية وتراكمها في البترا وجوارها".

وأكد الدكتور الطويسي أن الأنباط "هم الجذر الأول للتكوين الثقافي والسياسي للعرب في بلاد العرب الشمالية، وقد عبدوا آلهة عربية عبدتها قريش بعدهم، وكانت أسماؤهم عربية ولغتهم المحكية العربية، وكتبوا بالآرامية ثم طوروها إلى شكل الحرف العربي لاحقا، كما أن المؤرخين الكلاسيكيين يجعلون كلمة (العرب) في كثير من المواضع مرادفة لكلمة (الأنباط)".

المصدر : الجزيرة