القراءة والبحث عن كتب تحت الأنقاض.. كيف وجد الثوار الأمل في سوريا؟
في ريف دمشق جنوب غرب العاصمة السورية تقع داريا، التي واجه سكانها حصار قوات النظام السوري منذ عام 2011 وعاشوا الحرمان من الغذاء والتنقل والأمن، لكن في أعماق هذا الدمار كانت هناك تجربة للخلاص من عالم القذائف والبراميل المتفجرة.
في مكتبة سرية فريدة من نوعها، روى الصحفي البريطاني مايك ثومسون في كتابه الصادر عام 2019 بعنوان "مكتبة سوريا السرية.. القراءة والخلاص في مدينة تحت الحصار"، حكايتها الملهمة وتحدث للجزيرة نت من قبل عن قصتها الفريدة.
اقرأ أيضا
list of 3 itemsالجذور العربية للعمارة الغربية.. كيف تمت سرقة كنيسة نوتردام وبيغ بن من سوريا والعالم الإسلامي؟
كاليفورنيا الشرق الأوسط.. هل تدب الحياة من جديد في معالم سوريا التي دمرتها الحرب؟
ومؤخرا نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرا مطولا عن كفاح شباب الثورة الذين بنوا المكتبة التي تم إنقاذها من تحت الأنقاض في داريا، وحكى التقرير، الذي كتبته دلفين مينوي، مراسلة صحيفة لوفيغارو الفرنسية بالشرق الأوسط، قصة بناء هذه المكتبة من خلال تتبع نشاط أحد أعضاء تلك المجموعة الصغيرة وهو أحمد المعضماني، وكتبت مينوي القصة في كتابها الصادر حديثا بعنوان "جامعو كتب داريا.. مكتبة سوريا السرية".
أشار التقرير إلى أن المعضماني لم يغادر داريا لما يقرب من 3 سنوات، وكانت المدينة كالتابوت، إذ حاصرها النظام السوري وكانت تتضور جوعا، وكان المعضماني واحدا من 12 ألف ناج من المدينة المحاصرة.
لقد كان سكان البلدة تحت نيران صواريخ بشار الأسد والبراميل المتفجرة وحتى الهجمات بالأسلحة الكيماوية لعدة أشهر، فقد حاصرها الرئيس السوري منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2012. ومثل كثيرين آخرين، حزمت عائلة المعضماني حقائبها وهربت إلى بلدة مجاورة، وتوسلت العائلة لابنهم أحمد بأن يتبعهم، لكنه رفض، فقد "كانت هذه ثورته.. ثورة جيله".
Thank you @georgeisediting @susanorlean @picadorbooks ! This book is dedicated to all the anonymous heroes of the Syrian revolution and their peaceful and creative means (including saving books from the rubble and building an underground library) against barbarity. #Syria #Daraya https://t.co/xlkbSZXmJd
— Delphine Minoui (@DelphineMinoui) March 18, 2021
مفاجأة الكتب
بقي المعضماني وغيره من الشباب، ليس للدفاع عن مدينتهم، ولكن للحفاظ على شيء ما فيها على قيد الحياة، ففي المدينة المحاصرة، حصل على كاميرا فيديو وأدرك أخيرا حلم طفولته، سيكشف الحقيقة.
التحق بالمركز الإعلامي الذي يديره المجلس المحلي الجديد، ففي النهار كان يتجول في شوارع داريا المنكوبة.. لقد صور منازل ممزقة، والمستشفيات تفيض بالجرحى، ودفن الضحايا، وآثار الحرب غير المرئية التي لا يمكن الوصول إليها من قبل وسائل الإعلام الأجنبية. وفي الليل، يقوم بتحميل مقاطع الفيديو الخاصة به على الإنترنت.
ذات يوم في أواخر عام 2013، اتصل به أصدقاؤه كانوا بحاجة إلى بعض المساعدة، لقد عثروا على كتب أرادوا إنقاذها في أنقاض منزل مدمر. "كتب؟" عاود السؤال متعجبا.
صدمته الفكرة واعتبرها -في البداية- سخيفة. كان ذلك في منتصف الحرب. ما الفائدة من حفظ الكتب عندما لا يمكنك حتى إنقاذ الأرواح؟ لم يكن يوما قارئا كبيرا. بالنسبة له الكتب مليئة بالأكاذيب والدعاية. بعد لحظة من التردد، تبع أصدقاءه عبر جدار مقطوع. وقع انفجار في الباب الأمامي للمنزل. يعود المبنى المشوه لمدير مدرسة فر من المدينة وترك كل شيء وراءه.
تحسس المعضماني طريقه بحذر إلى غرفة المعيشة، كانت الأرضية الخشبية مغطاة بالسجاد والكتب متناثرة وسط الركام. بحركة بطيئة واحدة، جثا على الأرض واختار أحد الكتب عشوائيا. ارتطمت أظافره بالغطاء المكسو بالغبار، كما لو كانت على أوتار آلة موسيقية. كان العنوان باللغة الإنجليزية، شيئا عن الوعي الذاتي، كتاب في علم النفس. التفت إلى الصفحة الأولى، وفك رموز الكلمات القليلة التي تعرف عليها. وانتابه إحساس مقلق يأتي مع فتح باب المعرفة.
أخذ المعضماني وقته واقفا، والكتاب على صدره. كان جسده كله يرتجف. يتذكر "نفس الإحساس بالحرية الذي شعرتُ به في احتجاجي الأول".
الكتب الأخرى التي عثر عليها تحت الأنقاض في ذلك اليوم: الأدب العربي والعالمي، والفلسفة، وعلوم العقيدة والدين، والعلوم، وبحر من المعلومات.
تجميع الكتب
في الأيام اللاحقة، استمرت جهود التجميع من أنقاض المنازل المهجورة والمكاتب المدمرة والمساجد المتهدمة. طوّر المعضماني اهتماما بجمع الكتب. مع كل عملية بحث جديدة عن الكتب، كان يستمتع بمتعة الكشف عن الصفحات المهجورة، مما يعيد الحياة إلى العالم المدفون في الأنقاض.
قاموا بالتنقيب بأيديهم العارية، وأحيانا بالمجارف. إجمالا، كانوا 40 متطوعا أو نحو ذلك -نشطاء وطلابا وثوارا- دائما على أهبة الاستعداد، في انتظار صمت الطائرات حتى يتمكنوا من الحفر في الأنقاض. لقد أنقذوا 6 آلاف كتاب في أسبوع واحد. بعد شهر واحد، وصلت المجموعة إلى 15 ألف كتاب، كانت الكتب قصيرة وطويلة ومنبعجة ومتضررة، وكان بعضها نادرا ومطلوبا للغاية.
أول مكتبة في داريا
كان عليهم أن يجدوا مكانا لتخزينها وحمايتها، ووضعوا خطة لمكتبة عامة، ولم يكن لدى داريا واحدة في عهد الأسد قبل الثورة، لذا ستكون هذه هي الأولى، وقال المعضماني واصفا المكتبة "رمز مدينة لا تنحني.. مكان نبني فيه شيئا حتى عندما ينهار كل شيء آخر من حولنا". توقف متأملا قبل أن ينطق بجملة لا تنسى "كان الهدف من ثورتنا أن تبني، لا أن تدمر".
خوفا من انتقام النظام، قرر المنظمون أن هذه المكتبة ستبقى في أقصى درجات السرية ولن يكون لها اسم ولا علامة، وستكون في مساحة تحت الأرض محمية من الرادارات والقذائف، حيث يمكن للقراء المتعطشين والمبتدئين على حد سواء الالتقاء.
بعد تجوال في البلدة، اكتشف المعضماني وأصدقاؤه قبو مبنى مهجور على حدود خط المواجهة، ليس بعيدا عن القناصين، لكنه بعيد إلى حد كبير عن إطلاق الصواريخ. وسارع المتطوعون ببناء رفوف خشبية. وجدوا الطلاء لتجديد الجدران المتربة. قاموا بإعادة تجميع أريكتين أو 3 أرائك. في الخارج، كدسوا بضعة أكياس من الرمل أمام النوافذ، وجلبوا مولدا للكهرباء. لأيام، كان جامعو الكتب منشغلين بغبار هذه المجلدات ولصقها وفرزها وفهرستها وتنظيمها. وأخيرا أصبحت مرتبة حسب الموضوع وبالترتيب الأبجدي على الرفوف المكدسة.
ويقول تقرير الصحيفة البريطانية إن هؤلاء الشباب السوريين تعايشوا مع الموت ليل نهار. لقد فقد معظمهم بالفعل كل شيء -منازلهم وأصدقاءهم وعائلاتهم- وفي خضم الفوضى، تشبثوا بالكتب وكأنها هي الحياة، على أمل غد أفضل، ونظام سياسي أفضل. وبدافع تعطشهم للثقافة، كانوا يطورون بهدوء فكرة عما يجب أن تكون عليه الديمقراطية. فكرة تحدت طغيان النظام وحارقي الكتب من تنظيم الدولة الإسلامية. كان المعضماني وأصدقاؤه جنودا حقيقيين من أجل السلام.
وأصبحت مكتبتهم بسرعة كبيرة أحد الأركان الأساسية لهذه المدينة المعزولة. تفتح من الساعة 9 صباحا حتى 5 مساء، ما عدا يوم الجمعة، يوم الراحة، وتستقبل ما معدله 25 قارئا يوميا، معظمهم من الرجال.
قال المعضماني إن النساء والأطفال في داريا لم يكونوا مرئيين كثيرا، ونادرا ما كانوا يغامرون بالخروج. بشكل عام، اكتفوا بقراءة الكتب التي أحضرها الآباء أو الأزواج إلى المنزل، بدلا من المخاطرة بالتعرض للبراميل المتفجرة.
القراءة في زمن الحصار
في البداية، كان الجميع يتعاملون مع الكتاب كشيء ثمين يقومون بفحصه لأول مرة. واختار أكثرهم فضولا نصا عشوائيا دون تردد كبير. كان الزوار الأكثر خجلا، غير المعتادين على القراءة، متوترين وخائفين من فكرة لمس غلاف الكتاب. لكن بعض الكتب بدأت تكتسب شعبية شفهية. قال أحد رعاة المكتبة: "هكذا انتهى الأمر بمعظم المقترضين لدينا إلى قراءة "الخيميائي لباولو كويلو"، "نعم، إنه أحد أكثر كتبنا شهرة. يمرره الناس. لقد قرأه البعض عدة مرات".
ربما كان هذا الكتاب الأكثر مبيعا عالميا قد جذب مرتادي المكتبة لأنه يصف فكرة مألوفة لديهم، اكتشاف الذات، إذ يتحدث الكتاب عن رحلة راعي إسباني من الأندلس إلى الأهرامات المصرية. وسمع شباب داريا الثوريون في هذا الكتاب صدى لملحمتهم المحفوفة بالمخاطر. كان يحتوي على كنز ثمين بشكل خاص في عيونهم: فكرة الحرية اللامحدودة.
وتقول الصحيفة البريطانية إنه من بين جيل رعاة تلك المكتبة، الذي لم يعرف إلا الدكتاتورية الصارمة لحزب البعث منذ أوائل الستينيات، كان التعطش للتغيير مذهلا. يقول أحدهم "معظم القراء لم يحبوا الكتب قط قبل الحرب. اليوم، لدى شباب داريا كل شيء ليتعلموه. يبدو الأمر كما لو أننا جميعا نبدأ من الصفر. في المكتبة، يسألني الناس عن كتب حول الديمقراطية طوال الوقت".
Thank you @georgeisediting @susanorlean @picadorbooks ! This book is dedicated to all the anonymous heroes of the Syrian revolution and their peaceful and creative means (including saving books from the rubble and building an underground library) against barbarity. #Syria #Daraya https://t.co/xlkbSZXmJd
— Delphine Minoui (@DelphineMinoui) March 18, 2021
كتاب آخر، وُضِع في مكان بارز على الرف، أثبت شعبيته بشكل خاص: كتاب العبر لابن خلدون. "لقد قام قراؤنا جميعهم بقراءة هذا الكتاب الضخم في وقت أو آخر". إن لم يكن هذا الكتاب الرائد في علم الاجتماع يقدم حلولا، فهو يقدم على الأقل طرقا للتفكير في قضايا أساسية مثل الحوكمة وصراعات السلطة والتنمية الاقتصادية، وهي الموضوع الأساسي، في وقت كان فيه شكل سوريا المستقبلية موضوعا لتساؤلات لا نهاية لها.
كانت الكتب تساعد في نقل هؤلاء الشباب السوريين إلى مكان آخر ومصدر رزق فكري تم حجبه عنهم لفترة طويلة.
مخبأ الكتب
ابتكر رعاة المكتبة شيئا غير عادي في وسط منطقة حرب إذ أصبحت مكتبتهم أرضا بلا حدود. إنها مخبأ سري حيث يتم تداول الكتب دون الحاجة إلى تصريح مرور أو سترة واقية من الرصاص. في هذا المكان المحمي، تمكنوا من إنشاء جو من الحميمية الجماعية، فضلا عن الشعور الأخلاقي والانضباط، وحتى نوع من الحياة الطبيعية. لم يكن هناك شك في أن هذه التجربة قد ساعدتهم في الصمود، حتى مقاتلي الجيش السوري الحر كانوا منتظمين في التردد على المكتبة، يقول تقرير الصحيفة البريطانية.
عندما هدأت القنابل، تبادل المقاتلون الكتب وتبادلوا توصيات القراءة تقول الكاتبة "الحرب مدمرة. إنها تغير الرجال وتقتل العواطف والمخاوف. عندما تكون في حالة حرب، ترى العالم بشكل مختلف. القراءة هي تسلية، فهي تبقينا على قيد الحياة. تذكرنا القراءة بأننا بشر".