أمجد ناصر في"مملكة آدم": سفر في سراديب الجحيم الأرضي وعذاباته
إلى جانب الشعر عرف الراحل أمجد ناصر بكونه أهم كتاب الأعمدة الأسبوعية ورائدا لما تعرف بالصحافة الأدبية
يعد الشاعر الأردني أمجد ناصر (1955-2019) أحد أبرز شعراء الحداثة العربية خلال الحقبة المعاصرة، وإحدى علاماتها الأدبية المميزة، وذاع صيته شرقا وغربا بسبب قدرته الهائلة على تشكيل نصوصه الشعرية وجعلها تدخل في سجالات حقيقية مع ماضي الشعر وتراثه المعرفي عبر اشتغالات ثرية وغنية يقيمها الشاعر في كل عمل شعري جديد يصدره، خاصة أن الأديب الراحل فطن مبكرا إلى ضرورة تخليص قصيدته من شوائب الأيديولوجيا وحمى السياسة التي أصابت جيل السبعينيات داخل المشهد الشعري العربي المعاصر.
فقد استطاع الشاعر الراحل أن يلفت إليه انتباه النقد العربي المعاصر، هو القادم من بيئة بدوية سرعان ما ستتبدى ملامحها داخل أعماله الشعرية، فهو لم يتنكر إلى الهامش الذي جاء منه بقدر ما ظل يشكل بالنسبة له منطلقا فنيا وجماليا يعمل معه على تطويع قاموسه اللغوي وصوره الشعرية بطرق ورؤى أكثر حداثة من الشعراء الذين كانوا يقيمون في بعض مدن المركز داخل العالم العربي.
اقرأ أيضا
list of 4 items"خذ هذا الخاتم" أمجد ناصر.. الأساطير والذاكرة
أمجد ناصر: الثورات لا تحدث كما تصورها الكتب
"هنا الوردة".. جدلية الثورة والعنف برواية أمجد ناصر
مديح لمقهى آخر
وعلى الرغم من كون أمجد ناصر ظل ينتمي أيديولوجيا إلى اليسار العربي وأهميته كأحد أبرز المثقفين العرب الذين عاشوا أهم التحولات التي طالت المنطقة العربية سياسيا واجتماعيا وثقافيا فإن هذا الأمر ظل بالنسبة له ملتصقا بسيرته الحياتية وأفكاره وسجالاته النقدية فقط، ولم يسمح له بالتوغل داخل قصيدته، بسبب الحدود والسياجات التي يضعها بين الأيديولوجيا والشعر.
فمنذ ديوانه الشعري الأول "مديح لمقهى آخر" سينتبه النقاد العرب إلى أهمية هذا الشاعر الأردني القادم من المفرق صوب مدينة بيروت التي كانت بمثابة جنة للكتاب والشعراء وكل الهاربين من جحيم أوطانهم.
ففي هذه المدينة -التي مثلت قدرا متخيلا بالنسبة لجيل بأكمله- ذاع صيت أمجد ناصر باعتباره واحدا من رواد الحداثة الشعرية العربية، ففيها سيكون شاهدا على حصار 1982 الذي سيتوجه بكتابه الرائق "بيروت صغيرة بحجم راحة يد"، وهو عمل مهم في سيرة ناصر، فهو عبارة عن يوميات القهر والجوع والنضال اليومي، للتعبير عن الرأي وحرية الذات أمام شظف العيش تحت الآلة الصهيونية.
ورغم أن أمجد ناصر انتظر سنوات طويلة لنشر يومياته فإن الكتاب ظل يهمس بتلك الحرارة التي سمعناها عن مرحلة عصيبة شهدتها سيرة بيروت سياسيا، فاللغة هنا تجمع بين السبري والحميمي والتاريخي/التوثيقي، لكن دون أن يتخلى عن صفة الشاعر الذي يعيش فيه، وذلك من خلال كتابة متمنعة ومنفلتة من قبضة التجنيس والشكل.
بين الشعر والنقد
لكن إلى جانب الشعر عرف أمجد ناصر بكونه أهم كتاب الأعمدة الأسبوعية داخل الصحافة العربية المستقلة منذ مغادرته اليونان واستقراره في لندن وعمله بداية في مجلة سينمائية هناك، قبل أن يدخل غمار تجربة "القدس العربي" في قسمها الثقافي.
يقول أمجد عن هذا الرحيل صوب لندن إن "المصادفة وحدها هي التي جاءت بي إلى لندن، فحتى الأيام الأخيرة من العام الماضي لم تكن لندن في عداد المدن التي أفكر بزيارتها، فكيف بالرحيل إليها؟ فلو سئلت آنذاك عن محطتي القادمة لقلت: تونس أو عمان، دون أن أجرؤ على تسمية بيروت".
ثمة ما يميز كتابات أمجد ناصر الصحفية، وذلك في قدرته على تطويع الأحداث اليومية في أن تغدو بمثابة ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية آنية عابرة، لكنه لا يتركها تمر بسرعة بقدر ما يعمل على جعلها تستوطن الكيان الجسدي والنسيج المجتمعي من خلال مساءلة لمفكرها وما تضمره من أسئلة قلقة عن حياتنا.
إن هذه القراءة الفاحصة في كتابات أمجد ناصر تنبع بالأساس من ثقافته الموسوعية ومن قدرته الهائلة على تفكيك الظاهرة وتشريحها في أبعادها المتشعبة، كل هذه الصفات لا يمكن أن تتأتى إلا لرجل خبر الرجات الكبرى التي مرت منها الصحافة العربية.
هذا إضافة إلى الرأسمال الرمزي النوعي الذي يمتلكه أمجد ناصر، والمتمثل في تحصيل معارف ثقافية وأدبية وسياسية وتاريخية تتبدى معالمها وتضاريسها داخل كتابة أمجد وبلغته ومعجمه البدوي وقدرته على اشتقاق الفعل والتكسير من حدة الصيغ التعبيرية المألوفة وجعل أسلوب الكتابة أشبه بشذرات "نيتشوية" لا تعير اهتماما بالغا للسياقات التاريخية وشروطها ومواضعاتها داخل الكتابة، بقدر ما تهتم بالتفاصيل المنسية وجعلها تبرز إلى السطح بلغة حميمية وأسلوب أدبي يفجر معه معجما تاريخيا لم يعد بإمكان الكاتب العربي اليومي تحصيله واستثماره داخل كتاباته اليومية.
هذه القدرة لدى أمجد ناصر في الضرب بقوة داخل الكتابة الصحفية اليومية تمتد وتخترق حتى امتداداتها داخل ما نسميها "الصحافة الأدبية"، فهنا تنتفي الحدود لدى أمجد بين الصحافة والنقد، فعشرات التجارب الشعرية والروائية والقصصية التي كتب عنها تبرز لغة أحشاء دفقة تتسلل إلى عمق التجربة الأدبية وتشريحها وتفكيكها من الداخل دون أن يصيب جسدها بأي خدش أو تجريح في حق صاحبها، فهو يتعمد أكثر من مرة الانفلات من قبضة النظريات الأدبية وسياقاتها التاريخية العامة على حساب لغة نقدية تنفي الأسلوب الصحفي/الخبري لتقيم في شرود اللغة وإمكاناتها ومدى تشابكها مع قضية أو سياق أو واقع ما.
هذه الطريقة لدى أمجد ناصر في الانفلات من قبضة النظرية على حساب حميمية العمل الأدبي يتحكم فيها ضمنيا عامل اللغة الشعرية ومعجمها البارز في ثنايا النص النقدي.
مملكة آدم
يمثل عمله الشعري الأخير "مملكة آدم" الصادر عن منشورات المتوسط قفزة نوعية في تجربة أمجد ناصر الشعرية، ففيه يحفر في طبقات مترسبة من الجحيم الأرضي.
وإن كانت ملامح التراجيديا السورية واضحة المعالم فإن اللغة ظلت تمارس مكرها الساحر عن طريق استعارة الصورة ومجازاتها، ولو أن النص أشبه بسردية تروي ما يحدث من ألم ومأساة داخل الوطن العربي لكن بطريقة أكثر تجنيحا على مستوى اللغة، لدرجة أن القارئ لا يفطن إلى دلالاتها أو حتى البقعة الجغرافية المعنية بهذا التيه الشعري المتأصل في تفرده الذي يضاهي فيه أمجد ناصر أعمالا شعرية أسست لمسار القصيدة العربية الحديثة والمعاصر.
وبسبب هذا المزيج المركب بين الشعري والأسطوري والواقعي والسيري يلتحم أمجد ناصر بالواقع العربي ومآزقه الوجودية، فهو يظل معنيا على مستوى التخييل بفتح تخوم لا يفكر فيها داخل قصيدته بشكل ملحمي تضمر معه نظرة الشاعر وموقفه السياسي لما يحدث داخل المنطقة العربية من استبداد وقتل وفتك وتدمير في حق أفرادها، لكن ليس بطريقة فجة وتقريرية في وصف أحداث ووقائع، وإنما يعمل على تبطينها وتخييلها في سيرة وداخل أناه الشعرية دون أن يخل بنظام العلاقة القائم بين لغة الشعر وأنطولوجيا الواقع، بقول أمجد ناصر:
"كنت يوما هذه الورقة التي تسقط في بطء/الغصن الصامد في وجه الريح/الوردة التي أنكرت نفسها عندما قدمها الخريف/إلى ملهمته الصهباء/النمر الذي يظن أنه حر فيما هو في حديقة مسيجة/الأرضة التي تأكل المهد والصولجان/التراب الذي يتفتت في أصيص جيرانيوم/لم تعد اليد التي اعتادت سقايته موجودة/القارب الذي خرقه رجل صالح/لأن ملكا في الأرجاء يأخذ كل سفينة غصبا".
شعرية الكتابة
تتأسس شعرية "مملكة آدم" على خاصية فريدة تتمثل في قدرة الشاعر على ابتداع نص مركب ومغاير مقارنة بالأعمال الشعرية الأخرى، ففيه يبدع الشاعر ما سماها الناقد السوري صبحي حديدي في مقدمة الكتاب "الكتلة النثرية" أو ما أسميه "النص المركب"، أي أن الخطاب لديه لم يعد خاضعا لعملية التبئير والتشذير كما نجدها في"مديح لمقهى آخر" أو"مرتقى الأنفاس".
إن هذا التركيب لم يكن اعتباطيا بقدر ما يعكس سوى حقيقة واحدة تتمثل في نضج الشاعر في توليف ملحمة شعرية مخاتلة لا تستقر حدودها عند نقطة واحدة، وإنما تخترق حدود الجسد ومعارفه الروحية وإقامة سجال حقيقي مع الواقع وما يحبل به من شروخ وتصدعات، إذ يتخذ الخطاب الشعري عند أمجد ناصر لغة احتجاج عن "البراميل التي تتساقط على الرؤوس كالمطر الذي أرسله الله إلى أمم أخرى".
وإن كان الخطاب الشعري هنا يتوغل في أدغال الواقع لدرجة أن هذا الأخير يغدو ضربا من الفانتاستيك الذي يبدد معه كل واقع مسبق، يقول أمجد ناصر "الذاكرة والحواس هنا آلات عقاب أشد لؤما من الخوازيق، أشم رائحة شراشف بيتنا ووجوه وسائده، وأسمع صوت ساقية عرجاء كاد خريرها يعيدني إلى مكان عشت فيه سعيدا ونسيت أين هو".
إن هذا الصوت الملتحم والممزوج بالواقع والسيرة والأنا الشاعرة يجعل العمل مميزا على مستوى إيقاعه وتركيبه كأن الشاعر يكتب بين حياتين، لا هو في أرض الأحياء ولا هو في أرض الأموات، إنه بين المنزلتين، حيث يصف ما يجري على مملكة آدم وما يراه في سفره المتخيل، لكن الأجمل يبقى في قدرة ناصر والمحافظة على صوت الشاعر "الحي" من خلال التقاط تفاصيل من هذا المتواري والميتافيزيقي من وجودنا المأساوي وعذاباته.