الروائي مصطفى لغتيري: الجوائز العالمية يلزمها الترجمة ولهذا اخترت شخصية صوفية شعبية لروايتي

مصطفى لغتيري رئيس الصالون الأدبي المغربي وعضو اتحاد كتاب المغرب وصدرت له عدة روايات ومجموعات قصصية (الجزيرة)

الدار البيضاء – مصطفى لغتيري من الكتاب المغاربة الأكثر غزارة في إنتاج الرواية، فهو إلى جانب حضوره الإعلامي المكثف يشتغل بطريقة متناغمة ومتباينة تعكس طبيعة كتاباته الأدبية وتوزعها داخل موضوعات متعددة، بحيث إن هذه الكتابات تكاد لا تفارق الجغرافيا المغربية، لأنها مشغولة بإشكالاتها وقضاياها وتاريخها بطريقة يجرب معها رئيس الصالون الأدبي المغربي طرق باب الحكي من جوانب متنوعة.

وإن كان أسلوبه هذا يميزه عن غيره ويقوده دوما إلى اكتشاف مناطق مهجورة داخل المجتمع المغربي إلا أن التجريب الروائي لدى لغتيري لا يتوقف عند حدود جماليات الشكل ولعبة الحكي، وإنما يتوغل في سراديب موضوعاته، ففي روايته "عائشة القديسة" يباغتنا لغتيري بالحفر في المتخيل الشعبي المغربي من خلال سرد حكاية بطلة الرواية بكل جمالياتها ورعبها وفتنتها وشبحها.

ومن هنا فإن استخدام الخرافة لدى الكاتب لا يأتي إلا لتكسير حدة الواقعية والإفراط فيها، على خلفية أن العمل الروائي يكون دوما مشرعا في وجه القوالب والأشكال والموضوعات بطريقة لا ينتبه إليها القارئ، مما يعطي الانطباع الأول برمزية العوالم الخرافية الخفية ومدى تحكمها في نسيج الحياة الاجتماعية داخل المجتمع المغربي ومدى قدرتها على التأثير في مخيلة الفرد المعاصر رغم مظاهر الحداثة الفكرية والتقنية.

للحديث عن عوالم الكتابة وجمالياتها عند الروائي مصطفى لغتيري التقت الجزيرة نت الكاتب، وكان لها معه هذا الحوار..

  • مصطفى لغتيري، ما الذي يمثله لك جنس الرواية الآن بعد تأليف أكثر من 15 رواية أغنت المكتبة الأدبية المغربية؟

يمكن أن أقول بكثير من الثقة إن الرواية بالنسبة لي مدونة سردية تعكس المجتمع بشتى تفاصيله، يتداخل فيها الماضي بالحاضر، التراث بالحداثة، الاستحضار بالاستشراف، النظرة العامة الشاملة بالتفاصيل الدقيقة، الثقافة العالمة بالثقافة الشعبية، إنها تشكل فسيفساء أمة وشعب، تحاول الرواية جاهدة ان تؤرخ للهامش، وللصامت واللا مفكر فيه، تمنح صوتا لمن لا صوت له، وتشكل ملامح وجوه شاءت القوة الغالبة -سياسية كانت أو اجتماعية أو دينية- تغييبها.

أعتبر الرواية فنا حداثيا بامتياز لأنها تساهم في تحطيم الأصنام والحدود وتجعل الأجناس تتجاور بداخلها، وتسمح بتعدد الأصوات والرؤى، وتحقق ديمقراطية من نوع ما داخل سطورها

 

هكذا تأتي الرواية لتقدم هذه الوجوه بكثير من الألق والاحتفاء، وقد تصبح أيقونة أو رموزا تزاحم، بل تتغلب على ما يرغب التاريخ الرسمي في تكريسه، لذا أعتبرها شخصيا فنا حداثيا بامتياز، لأنها تساهم في تحطيم الأصنام والحدود، وتجعل الأجناس تتجاور بداخلها، وتسمح بتعدد الأصوات والرؤى، وتحقق ديمقراطية من نوع ما داخل سطورها.

  • هل تعتقد بوجود كتابة روائية ذات خصوصيات مغربية استلهمت التراث المغربي واشتغلت على تطويعه أدبيا كما فعلت في روايتك "عائشة القديسة"؟

رغم أن الحسم في هذا الأمر يبقى صعبا، وهو بالتأكيد عمل شاق يتعين على النقاد والدارسين القيام به، لكن من وجهة نظر شخصية جدا يمكن أن أدعي أن الكتابة الروائية المغربية لها نوع من الخصوصية التي تكتسبها من عدة روافد، من بينها التراث الشعبي والعالم، فتوظيف شخصيات ثقافية مغربية تراثية لا يمكن إلا أن يمنح هذه الرواية شخصيتها وخصوصيتها.

رواية "عائشة القديسة" تتناول حكاية تتراوح بين امرأة تاريخية مقاومة للاحتلال وجنية تتوارث الأجيال قصتها (الجزيرة)

وهذا ما حاولت القيام في رواية "عائشة القديسة"، وهي رواية وظفت فيها شخصية جنية لها شيوع في الأوساط الشعبية ويتعلق الأمر بـ"عايشة قنديشة"، ونفس الأمر بالنسبة لرواية "الأطلسي التائه" كذلك التي قاربت فيها شخصية متصوف مغربي له صيت كبير في أوساط الشعب المغربي، استمر تأثيره منذ القرن الـ12 إلى اليوم، لكنه للأسف مجهول في المشرق العربي، ويتعلق الأمر بأبي يعزى الهسكوري المشهور في المغرب بـ"مولاي بوعزة".

  • لكن بالنظر إلى تجربتك الروائية، كيف جاءت وتشكلت معالم التراث الشعبي وتوظيفه داخل النص الروائي؟

لا شك أن الأدب في أحد تجلياته يشكل رأسمالا رمزيا تعتز به الشعوب وتفاخر به الأمم بعضها البعض، ويتخذ هذا الرأسمال قوته من روافده المتعددة التي تعبر عن ثراء التراث الشعبي والعالم، ومن بينه طبعا تلك الشخصيات والأحداث والحكايات التي تزخر بها الذاكرة الجمعية للشعوب.

يلزم الأدباء أن ينقبوا عن تلك الكنوز الثقافية ويعمدوا لتوظيفها في نصوصهم، فهي بلا شك تمنح النص الروائي قيمة مضافة لا غبار عليها، ولعل هذا ما جعلنا نرى في الآونة الأخيرة نصوصا تظهر تباعا مغربيا وعربيا، تتخذ من التراث ومن التاريخ عمودها الفقري، توظفه كلحمة للحكي، هذا فضلا عن إغناء البعد الدلالي ومنحه عمقا تأويليا، مما يجعله قابلا للقراءة المتعددة مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، وتلك لعمري من سمات نجاح النص الأدبي عموما

 

لهذا، كان لزاما على الأدباء أن ينقبوا عن تلك الكنوز الثقافية ويعمدوا لتوظيفها في نصوصهم، فهي بلا شك تمنح النص الروائي قيمة مضافة لا غبار عليها، ولعل هذا ما جعلنا نرى في الآونة الأخيرة نصوصا تظهر تباعا مغربيا وعربيا، تتخذ من التراث ومن التاريخ عمودها الفقري، توظفه كلحمة للحكي، هذا فضلا عن إغناء البعد الدلالي ومنحه عمقا تأويليا، مما يجعله قابلا للقراءة المتعددة مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، وتلك لعمري من سمات نجاح النص الأدبي عموما.

رواية "رجال وكلاب" تناقش المرض النفسي والوساوس والأوهام وصدرت عن منشورات غاليري الأدب سنة 2020 (الجزيرة)
  • على الرغم من الفوز الكاسح الذي حققته الرواية المغربية بجوائز عربية لا يزال هذا الجنس الأدبي يشهد نوعا من الهشاشة داخل المغرب مقارنة بأعمال أفريقية أخرى، ما الملامح الجمالية التي ترسمها للرواية المغربية منذ التسعينيات إلى اليوم؟

طبعا، لا يمكن الحكم على وضع الأدب عموما -والرواية خصوصا- إلا من خلال السياق العام الذي ينتمي إليه، ونحن نعرف وضعنا الثقافي العام الذي ما زال يعاني من كثير من التردد، فضلا عن انتشار آفة الأمية وعدم قدرة المؤسسات الثقافية على مواكبة الزخم الإبداعي المتنامي، كما أن اللغة العربية ما زالت تعاني نوعا من الحصار والمحدودية، فكم من كاتب متوسط الموهبة كتب باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وجد الاحتفاء والانتشار، وكم من كاتب موهوب كتب باللغة العربية ظل إبداعه محصورا في الزاوية الضيقة!

لا يمكن لكاتب عربي أن يطمع في جائزة عالمية دون أن يحظى بالترجمة، وهذه الترجمة تبقى بصراحة ضربة حظ، وتتحكم فيها العلاقات الاجتماعية بالدرجة الأولى

وغني عن البيان أنه لا يمكن لكاتب عربي أن يطمع في جائزة عالمية دون أن يحظى بالترجمة، وهذه الترجمة تبقى بصراحة ضربة حظ، وتتحكم فيها العلاقات الاجتماعية بالدرجة الأولى.

  • في روايتك "رجال وكلاب" تعطي أهمية كبيرة للتحليل النفسي في صياغة الشخصية الروائية، هل تعتقد أن القارئ العربي مؤهل بمعارفه ومتسلح بأدواته كي يحلل نصا ينزع صوب التجريب الفكري؟

حاولت في رواية "رجال وكلاب" توظيف تقنية التحليل النفسي من خلال التداعيات الحرة عبر فتح حوار مباشر مع القارئ من أجل توريطه في تحليل الشخصية المصابة بمرض الوسواس القهري، وبالطبع لا يتطلب من قارئها أن يكون ملما بكل تقنيات التحليل النفسي، لكنها تحاول فتح عينيه على ثقافة علم النفس، وتوجيهه إلى الإمكانيات الكبيرة التي يحفل بها هذا المجال الخصب.

ولعل الغاية الكبرى من كل ذلك هي إقناع القارئ بأن مشاكلنا النفسية ومعضلاتنا الاجتماعية ناتجة عن تصرفاتنا كأفراد وجماعات، وأنها قابلة للحل إذا تعاطينا معها بشكل عقلاني من خلال التحليل النفسي أو غيره من الميادين العلمية، بعيدا عن التعاطي الخرافي، إنها في مستوى من مستويات التأويل محاولة لبث الوعي عبر الكتابة الروائية.

  • في "الأطلسي التائه" تطرقت ولأول مرة لموضوع التصوف، وهذا ليس بجديد على الرواية العربية، إذ ثمة أعمال عربية وغربية قامت بتخييل المتن الصوفي، كيف اهتدى مصطفى لغتيري إلى هذا النمط المعرفي الحسي؟

أظن أن الجديد في الأمر -على الأقل مغربيا- هو الاشتغال على شخصية صوفية شعبية، ومغربية بامتياز، إذ إن أغلب النصوص العربية والمغربية اشتغلت على شخصيات معروفة في الأوساط الصوفية بنزعتها العالمية، ولها إنتاجات فكرية معروفة كالحلاج وابن عربي مثلا، فيما يُعتبر أبو يعزى الهسكوري -الذي وظفته في رواية "الأطلسي التائه"- شخصية شعبية إلى أقصى الحدود، وهذا مما جعلني أهتم به منذ أن قرأت عنه بعض السطور البسيطة، فهو شخص أمي وأسود وأمازيغي، ومع ذلك ارتقى في المخيال الشعبي حتى بلغ درجة القداسة، فلقبته العامة بـ"مولاي بوعزة"، ونسبت له كرامات بلا حصر.

إنها شخصية من الهامش الثقافي والاجتماعي، وهي بالتأكيد ومن منظوري الشخصي تستحق الاهتمام، وهذا ما حاولت القيام به في الرواية.

رواية "الأطلسي التائه" تتنقل بين مدن وبراري المغرب وتتابع المتصوفة ورحلاتهم (الجزيرة)
  • ماذا عن علاقته بالتخييل الروائي؟ وكيف وعيت أهميته وما يمكن أن يفتحه من آفاق تخييلية للرواية المغربية؟

التخييل هو عمق الكتابة الروائية، والخيال هو رأسمال الكاتب، وأعتقد أنني حاولت أن أقدم عددا من الروايات المتنوعة التي تتسم ببعد خيالي لا غبار عليه، لقد عاب كثير من النقاد على الرواية المغربية في مرحلة من مراحلها أنها اتكأت على السير الذاتية، إذ إن بعض كتابها وحتى البارزين منهم غالبا ما تكون نصوصهم الروائية صدى لحياتهم الحقيقية، لكن الأمور تغيرت وأضحت النصوص الروائية المغربية في المدة الأخيرة أكثر التصاقا بالخيال من حياة كتابها، وهذا يظهر جليا في كثير من النصوص الروائية.

  • إلى أي حد يمكن الحديث عن حركة نقدية مغربية لامست الرواية وفكرت في مضامينها؟

الحديث عن النقد حديث ذو شجون كما يقال، وهو بالطبع له إيجابياته وسلبياته، فالنقد ومعه النقاد متعدد ومختلف، ولا يمكن وضعه في خانة واحدة، كما أن اتجاهاته متعددة، لكن يمكن القول إنه تطور بشكل ملموس وأضحى حاضرا بقوة في المشهد الأدبي المغربي منذ فترة ليست قصيرة، بل تميز عربيا بشكل ملحوظ، وبرزت فيه أسماء أضحت علامات فارقة في تاريخ النقد العربي، حتى وإن كان اهتمامها بالنص المشرقي أكثر من اشتغالها على النص المغربي.

ومع ذلك، يمكن أن نفتخر بالنقد الأكاديمي الذي وجه بوصلته في اتجاه النصوص الروائية المغربية في العقود الأخيرة، خاصة على مستوى البحوث الجامعية، وهذا أمر جيد، ولا شك سيساهم في التعريف بالرواية المغربية لدى الطلبة الذين هم بالتأكيد أساتذة المستقبل، والذين سيعرّفون بالرواية المغربية في أوساط التلاميذ.

وهذا ما أتمناه على الأقل، لأن المدرسة هي المشتل الحقيقي لحب الأدب عموما والرواية خصوصا، واسمح لي أن أستغل هذه الفرصة لأدعو وزارة التربية الوطنية لبذل مجهود من أجل التعريف بالرواية المغربية في المقررات ومن خلال الندوات واستضافة الكتّاب، وتقرير بعض الروايات بشكل دوري وجهوي على تلاميذ المؤسسات التعليمية.

المصدر : الجزيرة

إعلان