المستعرب التشيكي ألويس موسيل.. تحولات المعرفة ومصالح الاستعمار الأوروبي
استطاع موسيل -في أثناء تخفيه- رسم خرائط عسكرية بدقة متناهية في فلسطين والأردن والمنطقة العربية الصحراوية لأجزاء من العالم العربي بمساحة 62 ألف كيلومتر مربع.
براغ – لم يكن البروفيسور التشيكي ألويس موسيل (1868 – 1944) مستعربا ورحالة عاديا مثل الذين جالوا العالم العربي، فقد جمع الخبرة العلمية الواسعة والمعرفة الوثيقة برجال القبائل لدرجة تسميته "الشيخ موسى" إلى جانب العمل لخدمة مصالح بلاده؛ إذ لمع نجمه عند الحكام الغربيين ليكون مرجعا علميا رسم ملامح منطقة بلاد الشام والجزيرة العربية جغرافيا وتاريخيا وعسكريا، بأسلوب توثيقي محترف، بعد أن استطاع التحدث بـ17 لهجة عربية إضافة إلى إتقان الفصحى بطلاقة.
في المكتبة الوطنية في العاصمة براغ، قدمت المسؤولة عن قسم الأرشيف بعض الوثائق النادرة للجزيرة نت، وبينها إحدى الصور للمستعرب موسيل قبل عام من وفاته، في منطقة فيشكوفا بمورافيا شرق التشيك، التي ولد فيها عام 1868، وتوفي فيها أيضا عام 1944.
اقرأ أيضا
list of 4 items“الاستشراق الجندري” وإدانة الثقافة وإهمال الحرب.. “هل تحتاج المرأة المسلمة إلى الإنقاذ حقا؟”
الصناعات الثقافية لإطالة عمل الاستعمار.. بريطانيا في أفريقيا وأدوات القوة الناعمة للإمبراطورية
“الماركسية وحدها لا تكفي”.. هادي العلوي في ذكرى رحيله الـ23
وتتحدث بعض الوثائق عن وصوله إلى مرتبة كاهن بعمر 23 سنة، ومرتبة أستاذ في كلية العلوم الدينية بجامعة أولوموتس التشيكية عام 1902، في حين تظهر وثيقة أخرى قيامه برحلات متعددة في الفترة بين عامي 1886 و1915 إلى فلسطين وشمال الخليج العربي، بمساعدة رسمية من السلطات النمساوية التي كانت تحكم باسم الإمبراطورية النمساوية المجرية (1867-1918).
المستعرب الكبير
ومن اللافت أيضا بين الوثائق -التي كتب عنها المؤرخون التشيك، مثل يانا موزلوفا- تركيز جهود موسيل في سنوات الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) على تعزيز الصلات والعلاقات التجارية والسياسية مع العالم العربي، حيث قام بتأسيس قسم البلقان والاستشراق الذي كان يعرف باسم "مؤسسة الشرق وما وراء البحار النمساوية".
ومع صعود القيصر كارل الأول، ارتقى موسيل إلى أعلى الدرجات ليتحول إلى شخصية شديدة التأثير في بلاط آل هابسبورغ (يطلق عليهم أيضا آل النمسا التي حكموها لقرون طويلة)، وفي عام 1917 أرسل موسيل من قبل القيصر إلى مناطق الإمبراطورية العثمانية في بعثة سياسية، كان من أهدافها تعزيز فرص دخول النظام القيصري النمساوي اقتصاديا إلى الشرق الأوسط.
وكانت تلك السياسة طموحا من القيصر بانتزاع مكانة في الدولة العثمانية بالدفاع عن حقوق الكنيسة الكاثوليكية، بدل فرنسا التي كانت مسيطرة هناك آنذاك.
يقول المستعرب لوبوش كروباتشيك -أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة كارل الشهيرة في براغ سابقا- إنه خلال بحثه وتوثيقه عن ألويس موسيل، وجد أنه كان مستعربا كبيرا ذا سمعة علمية وخبيرا من الطراز الرفيع بالأوضاع السياسية في الشرق الأوسط.
ويكمل كروباتشيك "مع انتهاء الحرب العالمية الأولى 1918، وقيام جمهورية تشيكوسلوفاكيا واستلام توماس ماساريك الحكم، غادر موسيل فيينا إلى براغ وأصبح مقربا جدا من توماس ماساريك -أول رئيس لتشيكوسلوفاكيا- معتمدا على خدماته للدولة الجديدة لتعزيز العلاقات بين تشيكوسلوفاكيا والعالم العربي".
"عميل بالغ الذكاء"
ويضيف كروباتشيك -في حديث للجزيرة نت- إنه ليس سرا أن موسيل كان عميلا بالغ الذكاء في تقديم أدق التفاصيل عن العالم العربي، استفاد منها القيصر وماساريك الذي قدمه إلى النخبة السياسية في نيويورك، لدراسة كتبه وتوثيقها بوصفها مرجعا عالميا في تحديد وفهم هوية العالم العربي.
وفيما يخص جانب من حياة المستعرب موسيل في البلاد العربية وخاصة بين القبائل، يقول رئيس مركز الفردوس الإسلامي في العاصمة براغ، بدر الشمري -وهو ابن قبيلة الشمري في شمال الجزيرة العربية التي ألف عنها موسيل كتابا- إنه لا يمكن لأحد أن ينكر القيمة الثقافية والتاريخية التي قدمها المستشرق التشيكي ألويس موسيل لأدق التفاصيل في حياة المجتمع القبلي في شمال الجزيرة العربية.
ويضيف الشمري -للجزيرة نت- أن موسيل استطاع بذكاء كبير التسويق للتقارير التي سجلها في أثناء حياته بين القبائل -مثل الرولة وشمر والحويطات- التي استمرت هناك 6 سنوات متواصلة، مستغلا بذلك بعض صفاتهم النبيلة، مثل الكرم والاحتفاء بالضيف.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال الجانب والدور الاستخباراتي الذي قام به واستفادت منه المليشيات الصهيونية المسلحة في تلك المرحلة، وما كان ذلك ليحدث لولا قربه من أمراء بعض القبائل، التي كانت تشكل حاضنة من الرجال والعتاد والخيل في مواقع ليست بعيدة عن القدس والمسجد الأقصى.
فعلى سبيل المثال، استطاع موسيل -في أثناء تخفيه- رسم خرائط عسكرية بدقة متناهية في فلسطين والأردن والمنطقة العربية الصحراوية لأجزاء من العالم العربي، بمساحة 62 ألف كيلومتر مربع، منبها إلى أهميتها الاقتصادية، وتم نشر تلك الخريطة من قبل معهد المساحة العسكري النمساوي عام 1906، بالإضافة إلى نشره دراسة مفصلة حول آثار الأردن التاريخية من خلال مرافقته لقبيلة الرولة، التي أطلقت عليه اسم الشيخ "موسى الرويلي".
ولفت الشمري إلى أن موسيل -بذكائه- سار بمنهجية البحث مركزا على تقصي الحقائق وتدوين أدق التفاصيل واعتماد الشمولية البحثية، ومعلقا بتوضيح دقيق على ما نقله واستكشفه ميدانيا، لإضفاء الطابع العلمي على البحث والدراسة.
والجدير بالذكر أن توماس ماساريك الذي تسلم الحكم عام 1918 في الدولة الجديدة -وقتها تشيكوسلوفاكيا- كان قد زار فلسطين في ظل الانتداب البريطاني عام 1927، وبارك هناك لليهود المهاجرين من تشيكوسلوفاكيا إلى فلسطين تأسيسهم أول كيبوتس (مستوطنة زراعية وعسكرية) في فلسطين وقتها وعرف بـ"بيت ألفا" على سفوح جبال الجلبوع، وكان من أشد المؤازرين للحركة الصهيونية.
تحولات استعمارية
وفي دراسته لأعمال الرحالة التشيكي، كتب الأكاديمي بجامعة الملك سعود الباحث سعيد السعيد أن التكوين العلمي لموسيل -الذي درس العهد القديم واللاهوت في جامعة ألمتز ونال الدكتوراة منها عام 1895- هو ما جعله يرحل إلى بلاد الشام، لكن ثمة تحولات طرأت على اهتماماته وأهداف رحلاته المتكررة إلى المنطقة العربية إذ كتب في مذكراته "إن اهتماماتي تنصب في الوقت الحالي على دراسة الأحياء أكثر منها على دراسة الأموات".
أما التحول الثاني في اهتمامات ألويس -بحسب ورقة الأكاديمي بجامعة ابن سعود- فقد جاء متزامنا مع اهتمام الدول الأوروبية بمد نفوذها وسياساتها التوسعية في المنطقة العربية، حيث استثمر موسيل رحلاته لخدمة مصالح الإمبراطورية النمساوية المجرية وتطلعاتها لتحقيق مقاصدها الاستعمارية في المنطقة العربية، وفي أثناء ذلك، لاحظ أن كسب المنطقة لن يتحقق لبلاده من خلال القوة العسكرية وإنما من خلال إقامة المشاريع الاقتصادية، مما دفعه للتركيز لاحقا على الجوانب الاقتصادية، بحسب ورقة العمل التي ألقيت في ندوة عن موسيل بجامعة تشارلز في براغ عام 2008.
واستطاع موسيل -خلال جهوده مع رجال قبائل الجزيرة العربية المتناحرة- أن يرسخ مصالح بلاده في المنطقة العربية في زمن الحرب العالمية (الأوروبية) الأولى، واستغل صداقته القوية مع القيصر النمساوي ونفوذه في مؤسسات الإمبراطورية النمساوية المجرية جاعلا من الثقافة والاقتصاد محورين رئيسين لترسيخ نفوذ دولته في الشرق الأوسط، ومن أجل ذلك أحيا ما سمي آنذاك "شركة الشرق وما وراء البحار" ودعمها القيصر النمساوي بمليونين و100 كرونة كارز الأول، رغم ما كانت تعانيه الخزينة النمساوية من مصاعب آنذاك.