الناقد العراقي علي حسن الفواز: الغزاة لا يكتبون تاريخا صالحا للاستعمال
يقول الكاتب والأديب العراقي علي الفواز إن هجرة المثقفين هي هجرة الأفكار، وإن منفاها هو موتها في عوالم البلبلة اللغوية، معتبرا أن المثقف العراقي هو الأكثر تحملا للوجع العربي، فاغتراباته مركبة، وطاعنة في الوجع الوجودي والمكاني
يرى الشاعر والناقد العراقي علي حسن الفواز أنه من الصعب التحقق من وجود قراءة مستقرة للتاريخ، كما يعتبر كتابة الرواية قناعا لخيانة التاريخ، وكل هذا مرده إلى وجود أزمة هوية للذين يخوضون في التاريخ سواء من ناحية قراءته أو كتابته؛ كون التاريخ خلف معارك كبيرة، وعملية نقله أصبحت مرهونة بعملية التلقي ذاته.
ويرى الفواز (ولد في بغداد عام 1957) أن عملية القراءة مختلفة؛ لذا فإن الخداع مختلف أيضا وهو ما يؤدي إلى الاحتيال وتحريف أحداث التاريخ، فوفقا لرؤيته، كل شيء خاضع للأيديولوجية سواء كان انتماء أو تأثرا.
كما يرى أن العودة إلى التاريخ من ناحية روائية تحمل خطورة الإجابة عن أسئلة مثل، هل هي عودة لصيانة الهوية أم نوع من المواجهة أو الخديعة؟ وهل الروائي لص على واقعه، ويعيش اغترابه الوجودي وبعض سماته أنه يعيش عقدة اللص، ومفسر الأحلام؟
وأصبح الفواز عضوا ناشطا في نقابة الصحفيين والاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، كما عمل أيضا في مجال الصحافة المرئية والمكتوبة والمسموعة، وكان عضو هيئة تحرير مجلة الأديب العراقي ومراسلا لمجلة "اليوم السابع" في باريس لغاية 1990، وجريدة "القبس" الكويتية لغاية 1990.
كتب مئات المقالات والدراسات، بالإضافة إلى المقالات والدراسات التي تخص النقد التلفزيوني والسينمائي، وأصدر "فصول التأويل" وكذلك "مرايا لسيدة المطر" وأيضا "مداهمات متأخرة" و"ألوان باسلة" و"مسرات سود" و"ومراثي المكان السردي" و"سرديات الأثر البصري" وغيرها.
وعن رؤيته النقدية بما يطرح في الزمن الراهن عن الرواية التاريخية وإعادة كتابة التاريخ روائيا وما يمكن التأكيد عليه في هذا المجال وما يرتبط به، كان للجزيرة نت هذا اللقاء مع الناقد والشاعر علي حسن الفواز.
-
تؤكد أنه من الصعب وجود قراءة قارة وناجزة للتاريخ، أو حتى القبول بمعطياتها وأحكامها السيرية والنقدية لا سيما ما يتعلق بأحداث مفصلية في التاريخ. من أين يأتي الالتباس في هذا الرأي من جانبه السردي أو الأدبي بصورة عامة؟
التاريخ صناعة تمثيلية خطيرة، تمارسها السلطة أو الجماعة أو الطائفة أو الفرقة أو الحزب أو الجنرال؛ إذ تصطنع لها أطرا وسرديات وأدلجات خشنة وأحكاما فيها من القوة بقدر ما فيها من الاحتيال والتورية والمخاتلة. لذا، من الصعب الثقة بما يقترحه "صناع" التاريخ، من "براديغمات" (أنماط فكرية) لتسويغ العلاقة الملتبسة مع الآخر، أو للانخراط في أوهام الهوية المتعالية.
التحقق من وجود قراءة قارة للتاريخ سيصطدم بما كرسته السرديات من قوى مضادة، ومن أخيلة عنفية، ومن أنساق مضمرة ومن هويات "قاتلة أو مقتولة"، وعبر تشكيلات يختلط فيها المقدس بالميثولوجي، والسلطوي بالشعبوي، ليبدو تنصيص الأرخنة وكأنه المجال العمومي والصياني لتداولات مفهومية قلقة، مثل الهوية والجسد والحرية والديمقراطية والأمة والجماعة، إذ ستكون هذه المفاهيم عرضة للتجريف والتغول، وحتى الاحتيال.
وهذا ما تورطت به الرواية بتوصيفاتها المتعددة، بدءا من رواية التاريخ إلى رواية الواقع، وانتهاء بالرواية "المرآوية" (أي رواية السيرة)؛ فأغلب الروايات لا تذهب إلى التاريخ بوصفه وقائع وأزمنة، بل بكونه تخيلات تكشف عبرها عن أكاذيب "الهوية المسردنة" و"القوة المسردنة" و"البطل المسردن"، وهي كشوفات قد تتسم بالتمركز حول خطاب السيطرة، أو التماهي مع "كتابة بالاحتيال" عبر الأيديولوجيا بوصفها تزييفا كما يقول ماركس، أو عبر العصاب الجماعة والملة والأمة.
العقل العربي هو عقل حكواتي، ولا يقبل بأن يكون نقديا، وينظر إلى التاريخ بوصفه قوة حمائية وربما مقدسة، لكننا وجدنا -ربما في مرحلة "ما بعد الكولونيالية"- أن كثيرا من التاريخ لا يخصنا، وينبغي مراجعته نقديا، ليس لطرده واتهامه بالتدليس، بل بوضعه في المتحف
-
ترى أن كتابة الرواية قناع لخيانة التاريخ، بل تصف الروائي بأنه إما لص أو مفسر أحلام. كيف يمكن القبول بهذا الرأي؟ ومن أي محمول نقدي تم التوصل إلى هكذا إزاحة؟
مشكلتنا أن العقل العربي هو عقل حكواتي، ولا يقبل بأن يكون نقديا، وينظر إلى التاريخ بوصفه قوة حمائية وربما مقدسة، لكننا وجدنا -ربما في مرحلة "ما بعد الكولونيالية"- أن كثيرا من التاريخ لا يخصنا، وينبغي مراجعته نقديا، ليس لطرده واتهامه بالتدليس، بل بوضعه في المتحف، وهو أكثر الأمكنة لياقة به، والسعي إلى مقاربة نقدية تتجاوز عقدة السحر، والأسطرة، وهو ما فعله العقل الأوربي في مرحلة الأنوار "الكانطية"، وفي مرحلة الحداثة "الهيغلية"، وأجد أن البدء من المرحلة التي سميت "النهضة" و"الإحياء" سيكون مناسبا لأننا بحاجة إلى عتبة، لكي نمارس شجاعة الاعتراف، ونزع الأقنعة الطينية عن تاريخنا.
خطيئة الروائي العربي تكمن في صناعته لشخصياته، وفي نظرته الملتبسة والمخاتلة للواقع، إذ كل الشخصيات ضحايا، ومطرودون، ويعيشون عقد الهوية والتاريخ والجنس، من دون أن يعيشون ذات الاغتراب الذي عاشه بطل كامو (الروائي الفرنسي) في "الغريب"، فهو يعيش العبث لكن ضمن النسق الكولونيالي المتعالي، والموهوم بحرية أناه القاتلة التي تعيش اغترابها الوجودي.
عقدة اللص، ومفسر الأحلام قد تكون بعض السمات العامة للروائي العربي، إذ يصطنع العالم عبر اللغة، وعبر الأيديولوجيا، وعن طريق ما يصل إليه قاموسه، أو حدود رؤيته التي تعيش تشوهات علاقاتها بالآخر، أو اضطرابها مع ما تصنعه السرديات من أوهام إزاحات.
عقدة اللص، ومفسر الأحلام قد تكون بعض السمات العامة للروائي العربي، إذ يصطنع العالم عبر اللغة، وعبر الأيديولوجيا، وعن طريق ما يصل إليه قاموسه، أو حدود رؤيته التي تعيش تشوهات علاقاتها بالآخر، أو اضطرابها مع ما تصنعه السرديات من أوهام إزاحات.
-
تؤكد دوما على التاريخ -لا من جهة وصفه بالأرخنة بل- بوصفه بما أنتج من معارك، لكنك تحذر من معارك مقبلة مع من سميتهم "كائنات المعارك" و"المتعصبون"، فهل نبقى ندور في حلقة التاريخ ذاتها على اعتبار أنه المعضلة التي تؤدي إلى التعصب الفكري أو الأدبي وحتى السياسي والديني؟
قد تكون معاركنا القديمة خاسرة؛ لأنها بلا خطط وبلا أدوات، وأن ما كان يجهز فيها هو الأحلام فقط. الخشية أن نمط تلك المعارك سيتكرر أيضا، وعبر الجماعات المتعصبة التي تصدق حكاية "استعادة التاريخ" عبر النص وعبر الجسد وعبر الزي واللغة، وهو ما حدث بالفعل عبر بعض جماعات ثورات الربيع العربي، والحركات العنفية والأصولية، وحتى بعض القوى الراديكالية الدينية والعلمانية.
لا أريد أن أتخيل كثيرا، أو أدعو إلى عادة كتابة التاريخ، وهي عودة واهمة، بل أدعو إلى ما يشبه العالمية والإنسانوية، فالعالم أو "قرية ماكلوهان" فرضت شروطها الوجودية على الجميع، وأحسب أن هذا الخيار هو ما يمكن أن يخلصنا من عقدة غير محمودة النتائج لكتابة التاريخ، ويساعدنا على تقويض ذاكرة العصاب، وتحرير العقل العربي من أوهامه وطلاسمه، ومن فوبيا "الفرقة الناجية" باتجاه التماهي مع "العالم الناجي" الذي يعيش أيضا تهديدات عمومية أكثر خطورة مثل كورونا وأزمة المناخ والأسلحة النووية، التي تحتاج إلى مقاربات أكثر شغفا من مقاربات الهوية المتشظية والجسد المعذب والجغرافيا المائعة.
نحن ضحايا التاريخ؛ فهو قناع، وعمى، وعزل، وهنا تكمن خطورته، إذ يتحول العمى إلى تقديس المحدود، مثلما يتحول القناع إلى منظار لتغويل الأشياء الصغيرة
-
نعيش حياة ضيقة في حاضرنا، هل التاريخ أيضا مسؤول عن عدم النظر إلى المستقبل ويجعلنا نلتفت إلى الوراء لرؤية الماضي والخوض فيه، ولهذا يلجأ الأديب إلى البحث عن أسرار ومسببات وصراعات هذا الماضي باعتباره ردة فعل على فعل التاريخ؟
نعم وأقولها بمرارة، نحن ضحايا التاريخ؛ فهو قناع، وعمى، وعزل، وهنا تكمن خطورته، إذ يتحول العمى إلى تقديس المحدود، مثلما يتحول القناع إلى منظار لتغويل الأشياء الصغيرة، فضلا عن أن هذا المحدود يحصر وجودنا في استعارات ضيقة وفي تداوليات يقتلها تكرارها، ولا خيار سوى النظر إلى الوراء، بوصفه الأسهل والأكثر إشباعا لـ"الآيروس" القومي والثوري والفحولي، مقابل تضييق الأفق أمام الرؤيا للحلم وللمشاهدة، وبالشكل الذي يجعل الحديث عن تاريخ آخر وكأنه حديث عن "الثورة" وعن "التمرد" والخروج من جنة عدن إلى الشوارع العمومية العربية التي تستحق التغيير أكثر من الحاجة إلى معرفة من كتب قصيدة التفعيلة السياب أم نازك الملائكة أم أمين ريحاني.
اللغة بيت كما وصفها هيدغر الألماني، وهو يقرأ هولدرين، وأحسب أن قراءته كانت عصابية، لأنه أسكن القصيدة في عصاب اللغة، مثلما أسكن ألتوسير الفكرة في الأيديولوجيا، وأسكن فرويد الإنسان في اللاوعي، وهذه السكنى المتشابكة هي رد على أوهام الإنسان ذاته، أو على متاهته، وعلى استهلاكاته البشعة
-
ما الذي يجعل الأديب يذهب إلى التعصب أو المكوث في الأيديولوجيات؟ وهل الناقد جزء من هذا العالم الذي يتبدى بكونه يحتاج إلى نقد من نوع آخر خال من طريقة صناعة كما سمتيها طواحين الهواء؟
اللغة بيت كما وصفها هيدغر الألماني، وهو يقرأ هولدرين، وأحسب أن قراءته كانت عصابية، لأنه أسكن القصيدة في عصاب اللغة، مثلما أسكن ألتوسير الفكرة في الأيديولوجيا، وأسكن فرويد الإنسان في اللاوعي، وهذه السكنى المتشابكة هي رد على أوهام الإنسان ذاته، أو على متاهته، وعلى استهلاكاته البشعة.
نعيش عصر ازدهار اللغة، فهي معسكرنا الكبير وسوقنا و"مولنا" ومطارنا الذي يسمح لنا بالتجوال، مثلما أننا نعيش عصر الفرجة، والنظر إلى العالم عبر حائط الزجاج، كل شيء حي ونابض وعار أمامنا، لكنه غير صالح للمس، وأحسب أن ما في كثير من نصوصنا الروائية والشعرية يتمثل في أنه تعبير عن مشكلاتنا الجديدة في اللالمس.
فنحن مثل الكائنات الأخرى نبحث وسط توهان العولمة والحداثة وما بعد الحداثة عن اطمئنانات، ولو عبر اللغة، أو عبر خطبة الفقيه، أو عبر فيلم سينمائي مثل "الرسالة" لكي نتوهم المكوث والبقاء، وألا يطردنا الآخر الاستعماري والاستشراقي من أرضنا وشرقنا ومن حقول نفطنا. أظن أننا الآن نعيش عصر ازدهار اللغة، فهي معسكرنا الكبير وسوقنا و"مولنا" ومطارنا الذي يسمح لنا بالتجوال، مثلما أننا نعيش عصر الفرجة، والنظر إلى العالم عبر حائط الزجاج، كل شيء حي ونابض وعار أمامنا، لكنه غير صالح للمس، وأحسب أن ما في كثير من نصوصنا الروائية والشعرية يتمثل في أنه تعبير عن مشكلاتنا الجديدة في اللالمس.
المثقف العراقي هو الأكثر تحملا للوجع العربي، فاغتراباته مركبة، وطاعنة في الوجع الوجودي والمكاني
-
لدى المثقف العربي عموما والعراقي خصوصا ثمة اغتراب سردي عن واقعه، وهذا الاغتراب سواء كان وجوديا فكريا أو أيديولوجيا سببه التاريخ. من أين تأتي هذا الاغتراب الذي تحول إلى اغتراب جسدي، وأيضا تمرد حتى على اللغة؟
المثقف العراقي هو الأكثر تحملا للوجع العربي، فاغتراباته مركبة، وطاعنة في الوجع الوجودي والمكاني، إذ عاش رهاب الحروب الملعونة منذ عام 1980 مع إيران، ومع غزو الكويت، وعبر الصراعات الفانتازيا مع "اللوثيان" (وحش بحري أسطوري في العهد القديم) الأميركي، وهي حروب عبثية وقاسية زادت من حساسية الطرد الرمزي، والتهميش والعزل عن التاريخ، فضلا عن أنه عاش الاغتراب المكاني.
هجرة المثقفين هي هجرة الأفكار، ومنفاها هو موتها في عوالم البلبلة اللغوية، وما حدث بعد 2003 من احتلال زاد من لعنة الاغتراب، لأنها استفزت ما هو مضمر ومقموع في موضوع الهوية، مثلما كانت كسرا لهيبة الجسد، ولم نجد إزاءها شيئا سوى العودة إلى لعبة اللغة مرة أخرى، لكي نرمم الوجود بها، أو ربما نرمم أنفسنا من تاريخ طويل من الاستعارات الكاذبة.
فالمنفى بوجهه السياسي والنفسي احتضن أكثر من 6 آلاف مثقف عراقي، وهو رقم خطير، لأن هجرة المثقفين هي هجرة الأفكار، ومنفاها هو موتها في عوالم البلبلة اللغوية، وما حدث بعد 2003 من احتلال زاد من لعنة الاغتراب، لأنها استفزت ما هو مضمر ومقموع في موضوع الهوية، مثلما كانت كسرا لهيبة الجسد، ولم نجد إزاءها شيئا سوى العودة إلى لعبة اللغة مرة أخرى، لكي نرمم الوجود بها، أو ربما نرمم أنفسنا من تاريخ طويل من الاستعارات الكاذبة.
-
هل يمكن تحقيق هدف الماورائيات للتخلص من أثر التاريخ على الأدب وقمعه له؟ وهل يمكن أن يتخلص الناقد أيضا من تأثير الضغط التاريخي من أجل التخلص من استلاب الآخر له والعودة إلى فتح أبوابه الخاصة بدلا من نوافذ الآخرين؟
لا أظن أن هناك حلولا ستأتي من النجوم، أو من وراء الأثر، فالتاريخ هناك من يكتبه دائما، طاغية أو لص أو قواد أو فقيه، والعالم يحتاج إلى تلك الكتابة -بقطع النظر عن المؤلف- ليطمئن على غنائمه الرمزية، ولكي يطمئن طالب المدرسة وأطروحة الدكتوراه على أن هناك حدثا ما، ووثيقة ما، أو كتابا ما أو صحيفة ما، قد تم تدوينه بوصفه نصا يستدعي قارئا: للقراءة، أو للذة، أو للكتابة المضادة، أو للاحتيال به على الآخرين، وهكذا نعيش مثلما عاشوا وما سيعيشون في نوبات متتالية من الاحتيال المتبادل.
أزمة التاريخ، هي أنه رهين غياب الأمكنة التخصصية، وأزمات المؤسسات، أقصد مؤسسات الكتابة ذاتها، الجامعات ومراكز البحوث والمكتبات والمدارس، ومؤسسات القانون، إذ إن غيابها أو تشوهها هو الذي يعطي هامشا قويا لكي يمارس الساحر والكاهن الذي طرده كانط من أن يفرض سردياته في المكان العمومي
-
كيف نقرأ التاريخ أدبيا بعيدا عما وصفته بالتلصص أو الخداع، وبعيدا أيضا عن عملية تصفية الحسابات التي ربما هي ردة فعل كما سميناها؟
لست مؤرخا لاقتراح قراءة ملعونة مثل هذه، لكني أجد أن أزمة التاريخ، هي أنه رهين غياب الأمكنة التخصصية، وأزمات المؤسسات، أقصد مؤسسات الكتابة ذاتها، الجامعات ومراكز البحوث والمكتبات والمدارس، ومؤسسات القانون، إذ إن غيابها أو تشوهها هو الذي يعطي هامشا قويا لكي يمارس الساحر والكاهن الذي طرده كانط من أن يفرض سردياته في المكان العمومي، المسكون بأوهام البحث عن الحماية، والمنقذ، الذي يوزع الخبر بدل المعرفة، وأحسب أن الجوع والفقر والجهل -وهي أعراض مصنوعة- ستبقى ما دام هناك حاكميات تمارس وظائف الخبازين وباعة "البيبسي كولا".
ما نحتاجه اليوم -وعبر حيازات بسيطة- هو التنظيم، والتخطيط، والإدارة الرشيدة، فالحلم بمدن اليوتوبيا سيكون حماقة، كما البقاء في مدن الدوستوبيا سيكون ظلما، لذا أقترح أن نعيش في مدن الاحتمال
-
هل هناك كتابة تخلو من الأيديولوجية أو تثير التاريخ أو أنها ردة فعل غاضبة لما نعيشه؟ أم أن كل شيء يقع في تبويب ما يعيشه المبدع في حاضر مختنق؟
قد يبدو السؤال ماكرا، إذ لا كتابة بلا أيديولوجيا، لكن المشكلة تكمن في صنايعية هذه الأيديولوجيا، وفي طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تحوطنا، وتسور مدننا وأحلامنا، وتجعلنا نعيش لذائذ الأضحوية بوصفنا شهداء للوطن والأمة والتاريخ والهوية، وأن موتنا المقدس هو ذاته موت "ديموزي" السومري الذي تسبب في ولادة الخصب.
ما نحتاجه اليوم -وعبر حيازات بسيطة- هو التنظيم، والتخطيط، والإدارة الرشيدة، فالحلم بمدن اليوتوبيا سيكون حماقة، كما البقاء في مدن الدوستوبيا سيكون ظلما، لذا أقترح أن نعيش في مدن الاحتمال، "الهيرتوبية"، تلك التي تجعلنا نقاوم بالحلم أولا، ونملك القدرة على ممارسة طقوس الحب والحوار مع الآخر والذهاب إلى معرض الكتاب والسفر إلى البحر، لأن الإفراط في الحلم سيكون جنونا في عالم يمارس لعبة الطرد بعقلانية باذخة.