الأرشيف العثماني وفلسطين.. كنز وثائق ينتظر تحقيق الباحثين

تبدي كثير من المؤسسات البحثية التركية والعربية اهتمامًا متزايدا بالأرشيف العثماني المتعلق بفلسطين، وقد شهد هذا الاهتمام في السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا يمكن رصده في جوانب عدة أهمها ظهور أعداد كبيرة من المراكز والمؤسسات البحثية المتخصصة بالأرشيف العثماني في تركيا وفي الضفة الغربية وقطاع غزة.

وأُطلقت مشروعات متعددة لحفظ الأرشيف العثماني، ورقمنة أجزاء منه، وإيجاد آليات تسهل وصول الدارسين والباحثين إلى بياناته، ويلاحظ التوسع اللافت في أنشطة التوعية بالأرشيف العثماني وأدوات التعامل معه وتحقيق مخطوطاته.

ويتفق الخبراء والمتخصصون في تحقيق الأرشيف العثماني على أهميته التي تتجاوز حدّ حفظ التراث الفلسطيني بل يعدّه كثير منهم بوابة معلومات شديدة الدقة والتنظيم عن تاريخ فلسطين سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وديموغرافيًا.

عشرات آلاف الوثائق

وتقدّر بعض المصادر حجم الوثائق المتعلقة بفلسطين في الأرشيف العثماني المحفوظ في مدينة إسطنبول بـ140 ألف صفحة، في حين يرى خبراء أن العدد يفوق ذلك كثيرا.

دخلت فلسطين تحت الحكم العثماني في عهد السلطان سليم الأول "ياووز سليم" عام 1516، وسرعان ما بدأ العثمانيون بتنظيم بياناتها في عملية توثيق شاملة يرجح أنها بدأت عام 1520.

ويقول الباحث المتخصص في الأرشيف العثماني كمال خوجة إن المدة الزمنية الطويلة التي عاشتها فلسطين في ظل حكم الدولة العثمانية جعلت هذه الحقبة من تاريخها جزءًا من التاريخ العثماني.

وجدير بالذكر أن الحكومة التركية سلّمت الجانب الفلسطيني، العام الماضي، نسخة إلكترونية من الأرشيف العثماني الخاص بسجلات (ملكية الأرض) "الطابو" مكونة من 36 ألف صفحة في 288 سجلا تضم آلاف البيانات الخاصة بتسجيل الأراضي الفلسطينية منذ زمن الدولة العثمانية.

بوابة المعلومات

ويشير خوجة الذي ترجم أكثر من 50 ألف وثيقة عثمانية إلى اللغة العربية إلى أن الأرشيف العثماني يقدم صورة عن جوانب الحياة كافة في فلسطين، عارضا بعض النماذج من تلك الوثائق تتحدث إحداها عن جهود السفارات ومواقفها من القضية الفلسطينية وهجرة اليهود.

ويحوي الأرشيف وثائق أخرى تثبت براءة الفلسطينيين من "فرية" بيع أراضيهم لليهود، إذ توثق تلك الأوراق أن ما تم تسريبه من أراض باعتها أساسا بعض الجهات المتنفذة في المنطقة ورجال الإقطاع رغم مقاومة أهل الأرض الحقيقيين لعمليات التسريب هذه.

وتشمل الوثائق قانون العمل الذي كان معمولًا به في لواء القدس الشريف ولواء غزة، بل توضح توزيع الرسوم على المحاصيل ولا سيما الزيتون الرومي وزيته وثمار الجوز والنخيل والتوت والتين والفواكه الأخرى بين المزارعين والملاك، وتبين أسعار كل منها.

وتوضح الوثائق طبيعة الحركة التجارية وكيف كانت الأقمشة تدخل إلى غزة من مصر، وكيف كانت العائلات الإقطاعية تجبي خيرات بعض القرى وتفرض خرجًا لا يطيقه الفلاحون والعاملون في أراضيهم، وكيف حظر القانون العثماني أنشطة أولئك الإقطاعيين ومنعهم من دخول القرى في أوقات الحصاد.

كما توضح قيمة الجباية الحكومية على البهائم والقطعان، ومقادير الضريبة على الحوانيت و"المالكانات" والمشاغل الحرفية كالمطاحن، وتحدد السلع المعفاة من الضرائب ومقدار العفو عن كل منها بتفاصيل دقيقة محددة المكيال.

ومن بين الوثائق التي عرضها خوجة وثائق تثبت بدقة أسماء وعائلات "مجاوري القدس الشريف" أي سكان المدينة من أبناء الديانات الأخرى، ووثيقة عن تسجيل الأراضي في الدفتر الخاقاني وهو بمنزلة سجل العقارات في عصرنا الحديث.

ووفقا لخوجة، فإن هناك وثائق تسجل قرى القدس وعدد سكانها وبيوتهم ودياناتهم وعدد الذكور والإناث فيها، أي إنها بحق قاعدة بيانات منظمة وسجل إحصاء دقيق أعدّ قبيل الحرب العالمية الأولى.

إثبات الحق

ويقول خوجة -الذي تحدث في ندوة نظمتها مؤسسة تقاليد للثقافة والتراث الفلسطيني في إسطنبول- إن هذه الوثائق يمكن أن تستخدم في دعم الدعوى القانونية بأحقية الشعب الفلسطيني التاريخية بأرضه.

ويستشهد خوجة على ذلك بموضوع "مقبرة اليهود في القدس" التي يقول إنها بالأساس أرض وقفية استأجرها اليهود لأنهم لم يكونوا يملكون مقبرة لموتاهم، لكن حجة ملكيتها ما زالت مسجلة للأوقاف الإسلامية حتى يومنا هذا.

ويقول إن الأرشيف العثماني يؤكد الحق الفلسطيني الواضح في فلسطين، ويعتقد أن النقص الكبير في أعداد المتخصصين القادرين على ترجمة الوثائق من اللغة العثمانية إلى العربية يمثل تحديًا حقيقيًا يحدّ من الاستفادة من هذا الأرشيف واكتشاف كنوزه.

عودة إلى الضوء

وإذا كانت تلك المظاهر كافية لتقودنا إلى الافتراض بتنامي الاهتمام بالأرشيف العثماني المتعلق بفلسطين، فإن أسئلة مهمة لا بد من أن تعالج في هذا الإطار أهمها يتعلق بالتوقيت والثورة المعرفية والتغيرات في البيئة السياسية والثقافية العربية والتركية، وحاجة الفلسطينيين والأتراك على السواء إلى البحث بعمق في باطن الأرشيف العثماني.

ويعتقد الأكاديمي الباحث الفلسطيني المتخصص في التاريخ مروان الأقرع أن الاهتمام بالأرشيف العثماني يعود إلى ندرة المادة التاريخية التي تتعلق بالبلاد العربية خصوصا في القرون الثلاث الأخيرة من حكم الدولة العثمانية.

ويقول الخبير الفلسطيني إن الأرشيف العثماني يمثل مصدرًا مناسبًا لإثراء المادة التاريخية لأن الدولة العثمانية كانت تهتم كثيرًا بالتدوين والمراسلات المتبادلة بين الولايات والعاصمة أو بين الألوية والولايات المختلفة.

ووفقًا للأقرع، وهو مؤسس مركز التاريخ الفلسطيني وموقع "موسوعة أحداث فلسطين"، فإن سبب بروز الاهتمام بالأرشيف العثماني في هذه الأوقات يعود بالتحديد إلى قيام تركيا بفرز الأرشيف وحفظه وإتاحته للباحثين، ويشتمل الأرشيف على آلاف من وثائق تسجيل الملكية العقارية في أراضي الإمبراطورية العثمانية التي حكمت فلسطين الأعوام ما بين 1516-1917.

تركيا - خليل مبروك - الباحث والأكاديمي الفلسطيني المختص بالتاريخ د مروان الأقرع - الصورة من حسابه في فيس بوك
الباحث الأكاديمي الفلسطيني المتخصص بالتاريخ مروان الأقرع أشار إلى ندرة الوثائق الأرشيفية العربية (مواقع التواصل الاجتماعي)

تحولات العصر

وفي حديث خاص بالجزيرة نت قال الأقرع إن الثقافة العربية في علاقتها مع تركيا بنيت على إرث من الدعاية غرسته الدول الاستعمارية، وساهم المستشرقون في تحديد ملامحه، وساهمت الأحزاب القومية التركية والعربية في تكريسه عبر الدفع باتجاه المواجهة والتنافر بين الترك والعرب عن طريق المناهج الدراسية.

لكنه رأى أن العودة إلى الوثائق العثمانية توضح بجلاء طبيعة العلاقة الحقيقية التي كانت تجمع العرب والدولة العثمانية وهي "علاقة أخوة، لا يقل انتماء العرب فيها للدولة العثمانية عن انتماء الترك، والدليل انتظام العرب في الوظائف العليا للدولة والجيش العثماني".

ويرى أن هناك اهتماما فلسطينيا شعبيا وأكاديميا بتاريخ الدولة العثمانية يتجلى في مؤلفات كثيرة عن الصراع الوجودي مع الاحتلال، اعتمدت على الإرث العثماني.

وفضلا عن الوثائق المحفوظة ماديًا في تركيا، تحتفظ مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية-بيت المقدس (ميثاق) في بلدة أبو ديس شرقي القدس المحتلة بنسخة إلكترونية من الأرشيف، ويفصل المؤسسة عن المدينة المقدسة جدار الفصل الإسرائيلي، ومن شرفتها تُرى قبة الصخرة بالمسجد الأقصى المبارك.

دوافع الحاجة

كما يعزى الاهتمام الفلسطيني بالأرشيف العثماني -المكتوب باللغة العثمانية- إلى الحرص على وصل النسب والقرابة عبر الأرشيف إذ تزخر سجلات المحاكم الشرعية ودفاتر النفوس بأسماء السكان.

ويقول الأقرع إن الدولة العثمانية اهتمت بعد صدور قانون الأراضي عام 1858 بملكية الأراضي، وعملت على توزيعها على العاملين فيها، وقد أسهم ذلك في تسجيل جميع الأراضي في فلسطين باسم مالكيها.

ويشير إلى أن هناك اهتماما كبيرا من الفلسطينيين بهذا الأمر فقد سلّمت الدولة التركية نسخة من الأرشيف المتعلق بالأراضي إلى السلطة الفلسطينية لاستخدامه في مواجهة الاستيطان، قائلا إن قضايا ترفع ضد حكومة الاحتلال الإسرائيلي في محاكمه تعتمد على الأرشيف العثماني بوصفه مصدرا للمعلومات وتأكيد الحقوق.

المصدر : الجزيرة

إعلان