ميلان كونديرا.. خصم الأدب الروسي والمنظر المعادي للأيديولوجيا والقومية

تجربة الأديب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا ارتبطت بفضح الشيوعية بحسب كتاب "ميلان كونديرا وفن الرواية وأوروبا الوسطى" (غيتي إيميجز)

ضمن سلسلة فكرية أطلقها الكاتب والصحفي الثقافي حسونة المصباحي، وتنشرها وزارة الثقافة التونسية في كتاب الجيب، صدر في تونس كتاب "ميلان كونديرا وفن الرواية وأوروبا الوسطى". ويحاول مؤلفه ومترجم مواده أن يقدم فيه الروائي والناقد التشيكي الشهير ميلان كونديرا.

يأتي هذا الكتاب بعد أن أعلن كونديرا عن توقفه عن الكتابة، ولم نعد نسمع عنه. يرجح مؤلف الكتاب أن الشيخوخة فعلت فعلها، أو لعله فضّل أن يخلد إلى الصمت مثلما يفعل الحكماء عند اقتراب أجلهم.

يرى حسونة المصباحي في بداية الكتاب أن ميلان كونديرا لم يكن يقدم جديدا مثيرا، حتى عندما كان يصدر روايات في منفاه الفرنسي، ويعد أن تجربته الإبداعية ارتبطت بفضح الشيوعية، وعندما انهار الاتحاد السوفياتي لم يعد "يملك ما يثير الاهتمام، وحتى الروايات التي كتبها بلغة موليير (الفرنسية) لم تتخلص من تبعات الحقبة الستالينية".

واعتبر المصباحي أن النقاد الفرنسيين الكبار كانوا يتجاهلون رواياته الأخيرة، واستشهد بالروائي الفرنسي بيار أسولين، الذي ذهب إلى أن الروايات الأخيرة لكونديرا دليل على أنه أصبح "يفكّر بشكل سيئ".

غير أن المصباحي يقر بأن كونديرا رغم ذلك نبغ في سنواته الأخيرة في فرنسا كناقد من خلال مؤلفاته "فن الرواية"، و"الوصايا المغدورة"، و"الستارة". تلك الكتب التي خصصها للرواية الأوروبية من رابليه وسارفنتس إلى فرانز كافكا وهرمان بروخ، وقد أبانت عن موسوعية ثقافته بالرواية والموسيقى والفلسفة والتاريخ.

ينقسم كتاب المصباحي إلى 6 فصول متفاوتة الطول هي "كونديرا متحدثا عن كونديرا"، و"كونديرا عن هازاك وكافكا"، و"كونديرا يشيد بكاتب هولندي مجهول"، و"كونديرا عن سلمان رشدي"، و"حوار مع ميلان كونديرا حول فن الرواية: الروائي كشّاف الوجود"، و"ميلان كونديرا: الغرب مختطفا أو تراجيديا أوروبا الوسطى". إن الانتهاء من قراءة هذا الكتاب يجعلنا أمام صورتين للكاتب التشيكي الناقد والمنظر والمبدع والمفكر السياسي .

ميلان كونديرا منظرا للرواية

يشيد الكاتب المصباحي بذكاء كونديرا الناقد وفهمه لفن الرواية باعتباره فن اكتشاف الذات والآخر، ويورد بعض أقواله التي تنحو نحو المفاهيم بنفسها الحكمي والقطعي كقوله "الرواية تعلمنا أن نفهم حقائق الآخرين، والطبيعة المحدودة لحقيقتنا".

وهي تعلمنا أن نفهم العالم كما لو أنه سؤال متعدد الأوجه؛ لهذا السبب كانت الرواية -وما تزال- معادية للأيديولوجيا، إذ إن الأيديولوجيا تقدم لنا العالم من خلال وجهة نظر واحدة، وهي تمثله لنا كما لو أنه تجسيد لهذه الحقيقة".

الغريب أن الكاتب قبل أسطر أشار إلى أن كونديرا توقف عن كونه كاتبا مجددا ومثيرا، بسبب انتهاء الشيوعية التي كان يحاربها، وكأن بالكاتب كونديرا ينظر في واد ويكتب في واد.

غير أنه من الجدير بنا أن نتساءل ما معنى أن تكون الرواية عدوة الأيديولوجيا؟ أو كما قال كونديرا في كتابه "فن الرواية" لا تُكتب لتصفية الحسابات وإن كُتبت كذلك؛ فستخفق إخفاقا فنيا تاما، وفي الوقت نفسه لا تغادر روايات كونديرا حقل الأيديولوجيا حقلها الأكثر وضوحا، وهل يمكن للروائي أن يكتب خارج الأيديولوجيا أصلا، وهل نجا منها كاتب الكتاب -المصباحي- نفسه في رواياته؟

وجب علينا أن نفكك عبارات كونديرا وكلامه عن الأيديولوجيا أيضا عبر نظرية النسبية التي أشار إليها، وهو يتحدث عن نسبية الحقيقة الروائية. يوضح كونديرا "إذا ما رفضت الرواية التقيد بالأيديولوجيا السياسية في عصرنا، والمساهمة في التبسيطات الأيديولوجية التي باتت مبتذلة وثقيلة، فإن هذا لا يعني موقفا حياديا من جانبها، وإنما هو تحد، إذ إن الرواية تُسقط نظام القيم المتعارف عليه، والأسس الجاهزة، وتقوض الأفكار السائدة".

تناول كتاب "ميلان كونديرا وفن الرواية وأوروبا الوسطى" للمصباحي، الأديب التشيكي من زاويتي الروائي والمنظر والمفكر السياسي (الجزيرة)

الرواية فن

وفي سياق نقده للحالة الروائية الغربية ينقل لنا الكاتب قسما من مقال كتبه كونديرا لجريدة لوموند الفرنسية بعد أن ظهر كتابه "الوصايا المغدورة"، ورفض أن يجري حوارا مع الجريدة بهذه المناسبة، ويقول في مقاله سنة 1993 "لقد أفلست أوروبا في أنها لم تعرف أبدا كيف تفكر في الرواية، الفن الأكثر أوروبية، كوحدة تاريخية."

ويرجع ذلك إلى سقوط الآداب الأوروبية في ما سماه بـ"زمن الآداب القومية" بعد أن سما بها كبار الروائيين إلى "زمن الآداب العالمية" مع رابليه وديدرو وبشتارن.. ويتهم كونديرا النقد بالفشل في التخلص من الجغرافيا، فـ"تحليل رواية ما في سياقها الوطني -يقول كونديرا- هو بالتأكيد شيء جيد، ومفيد لكي نفهم الدور الذي لعبته في تاريخ شعب من الشعوب؛ غير أن هذا لن يكون كافيا إذا ما نحن تناولنا هذه الرواية كعمل فني".

يأخذنا هذا الكلام مباشرة نحو وظيفة الرواية كفن عند كونديرا "ماذا ننتظر فعلا من الرواية؟" ينطلق كونديرا دائما من السياق الأوروبي، فـ"هذا السياق هو الذي يقول لنا، لا ما قدمته الرواية للشعب، وإنما ما قدمته للفن الروائي بصفة عامة، وما المظاهر غير المستكشفة للوجود التي تمكنت من أن تضيئها، وما الأشكال الجديدة التي ابتكرتها."

فالرواية -حسب رأيه- بحث عن وجود جزر وجودية جديدة، وأشكال قول جديدة، وطرح أسئلة جديدة، وتعليم "القارئ بأن العالم سؤال"، ويبني نظريته على حكمة خروج دون كيخوته لمواجهة العالم، لم يكن الفارس دي لامنشيا سوى حزمة من الأسئلة خرجت في وجه العالم تحرج "يقينياته ومسلماته المقدسة"؛ ففي ظل هذه اليقينيات والحقيقة المقدسة -حسب كونديرا- "تموت الرواية"؛ أي إن الرواية لا يمكن أن تعيش إلا في الشك، وفي عالم النسبية المطلق كما سبق وأكد ذلك في كتبه الأخرى.

يرى كونديرا عالم اليوم عالما لا روائيا؛ لانحسار السؤال فيه، فالكل يجيب ولا أحد يسأل.

الأدب الروسي.. الانتفاضات والثقافة

في فصل بعنوان "الغرب مختطفا أو تراجيديا أوروبا الوسطى" يورد كونديرا موقفا غريبا من الأدب الروسي؛ إذ يقرنه بالسوداوية والجنون، وفي مقابل ولعه بالأديب الفرنسي دنيس ديدرو، يصرح بموقف مفاجئ من دستويفسكي، فيقول أنا لست كاتبا من الشرق، وبراغ هي قلب أوروبا.. وبالنسبة لدستويفسكي أنا لا أنكر عظمته، وإنما أرغب فقط في التعبير عن نفوري الشخصي منه، وهذا النفور فاجأني أنا نفسي، وقد انتبهت إلى أن العالم الروسي الهيستيري، ونزوعه إلى الجنون، وإلى الرغبة في التألم، وإلى النزول إلى ظلمات الأعماق غريب عني؛ لذلك أحسست أني أمرض عندما أقرأ مثل هذا الأدب، وقد بحثت عن دواء، ولم أجد هذا الدواء إلا عند ديدرو.. كانت السنوات التي قرأت فيها الأدب الروسي من أشد سنوات حياتي تعاسة وشقاء". يرى كونديرا أن الأدب الفرنسي هو من أنقذه من ذلك المرض الذي عذبه كثيرا.

يربط كونديرا في مقاله الغرب مختطفا بين الإحساس بالخطر وحيوية الثقافة، فنحن نحرك كل ما هو ثقافي فينا كميكانزمات دفاع أمام خطر المحو والشطب، وهذا ما يحدث للجماعات والأقليات والشعوب المهددة والحضارات المتدهورة أو الساقطة تحت الهيمنة.

يقول كونديرا إن هوية شعب وحضارته تنعكس وتتلخص في مجموع الابتكارات الروحية، التي نسميها عادة "ثقافة"، فإذا كانت هذه الهوية مهددة بشكل خطير، فإن الحياة الثقافية تزداد حيوية ونشاطا وقوة؛ لتتحول الثقافة إلى قيمة حية من حولها يتجمع الشعب."

ويمضي كونديرا في تفسير ذلك عبر ربط الفكرة بقصة ربيع براغ الذي رآه نتاج حركة ثقافية أساسها المسرح والسينما والفلسفة والأدب، فهذه التعابير الثقافية هي التي مهدت لحدوث ربيع براغ. فـ"كان منع مسرحية لميكيوفيتش، وهو شاعر بولندي رومنسي، سببا في اندلاع انتفاضة الطلبة"، وهذا الذي قاد انتفاضات أوروبا الوسطى وأضفى عليها الجمالية الفاتنة.

لكن كونديرا لا ينكر أن هذه الانتفاضات ذات الأصول الثقافية لا تعترف شعوب أخرى بأنها ثورات "أصيلة وشعبية"، ويرتاب فيها الفرنسي والألماني باعتبارها انتفاضات مصطنعة أو مسقطة، فـ"الثقافة والشعب لا يتعايشان، ولا ينسجمان"؛ لكن ذلك أيضا مرتبط بصورة عن المثقفين باعتبارهم "نخبة من أصحاب الامتيازات"، وهذا ما يرفضه كونديرا، ويرى أن ربيع براغ مثلا كان الوحدة الأكثر اكتمالا والأشد تنظيما بين الشعب وتراثه الثقافي المهمش والمقموع والمهمل والمضطهد في البلاد.

أوروبا البديلة

يعود كونديرا في مقاله لتفكيك مفهوم أوروبا، وكيف تربض بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية أوروبا أخرى تجاهد من أجل هوية مختلفة، ويسهب في وصف فظاعة روسيا باعتبارها حضارة أخرى في وجه العالم وفي وجه أوروبا الأخرى.

إن "روسيا الإمبريالية" التي كانت تسعى لأن تصبح "مملكة كونية"، وكما وصفها المؤرخ التشيكي فرانتيشك بلكاي أنها ستكون "كارثة هائلة، يعجز عن وصفها، ولا حدود لها"، فالروس "يبدون برابرة" في عيون البولنديين، ويروي قصة ذلك الكاتب البولندي الذي التقى بالشاعرة الروسية الشهيرة أنا أخماتوفيا، واشتكى لها من مصادرة كتبه فسألته "هل سجنت؟" فأجاب لا، وسألته "هل طُردت من اتحاد الكتاب؟" ، فلما أجاب لا، ردت عليه "إذن مما تشتكي؟"، وذلك الحوار القصير عكس البعد الحضاري بين الكاتبين.

ويربط كونديرا بين هذه القصة وكراهيته للأدب الروسي ونفوره منه، فقد كانت قصص غوغول وستايكوف-شتشيدرين تروّعه إلى أن يقول "أفضل ألا أعرف عالمهم، ولا أن أعلم بوجوده أصلا"، ويكتب ذلك رغم اعترافه بفن غوغول؛ لكن أثره النفسي أكبر من تحمله، ولا يمكن أن يكون أثره على القارئ البعيد كما أثره على الجار القريب لتلك العوالم التي تصبح كابوسية.

أبان كونديرا في هذا المقال قدرة كبيرة على تفكيك ما سمي بـ"إيديولوجيا العالم السلافي" والعقل السوفيتي الأدبي والسياسي، واستطاع عبر تحليل خطابه أن يقترح تصورا آخر لأوروبا المتشظية، ومع ذلك فهو في قراءته التفكيكية يبني ليهدم من جديد حين يرى أن العقلين الشيوعي والرأسمالي وجهان لعملة واحدة في علاقتهما بالإنسان.

يقول "هناك تشابه يدهشنا بين العالمين، عندما رأيت في تشيكوسلوفاكيا العمارات السكنية الشعبية المتشابهة، اعتقدت أني أشاهد السمة التي يتميز بها الرعب الشيوعي، وفي بربرية الأبواق التي تطلق عاليا في كل الأمكنة موسيقى رديئة، كنت أتحسس الرغبة الجامحة في تحويل الأفراد إلى مجموعة من الحمقى والمغفلين الذين يوحد بينهم الصخب المفروض عليهم. في ما بعد، فهمت أن الشيوعية تكشف لي بطريقة كاريكاتورية مبالغ فيها الملامح المشتركة للعالم الحديث، والبيروقراطية نفسها للسلطة، وكلية الوجود، وفيها يعوض صراع الطبقات بغطرسة المؤسسات تجاه المستعمل لها، وانحطاط المهارة المهنية، وتفاهة شباب الخطاب الرسمي، والعطل التي تنظم للقطعان البشرية، وبين كل هذه القواسم المشتركة هناك الأسوأ المتمثل في عدم احترام الحياة الشخصية للفرد."

في هذه النصوص التي انتقاها المصباحي يظهر كونديرا ككاتب مركّب بين المبدع والمنظر والمفكر والسياسي مذكرا بجيل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، الذي يرى أن خطاب الكاتب الأقلي لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، وكذلك يمكن أن نسحب القول على المنفي. ظل كونديرا يتخبّط في براغ وهو خارجها، يقرأ العالم كله عبرها؛ بل يقرأ نفسه والآخر الفرنسي الذي احتضنه عبرها، وظل يحمل ذلك التمايز بين التشيك البلد الذي ينهار في ذهنه؛ لأن المجلات الأدبية منعت فيه، وبين فرنسا التي تجلس أمام التلفزيون مساء غير مهتمة باختفاء المجلات فيها.

المصدر : الجزيرة

إعلان