فايز بركات.. جسر ثقافي بين كوريا الجنوبية والعالم العربي
في حي بوكتشون، وهو أرقى وأعرق الأحياء في العاصمة الكورية الجنوبية سيول، وعن يمين قصر غيونغبوك الشهير، قبالة المتحف الوطني للفولكلور، يوجد ذلك المبنى الخلاب، الذي تتدلى من فوقه شجيرات اللبلاب المتسلقة، وتزين مدخله تحف أثرية من حضارات وعصور قديمة، كما تزين حديقته الأمامية سيارة بنتلي مطلية بالألوان الزيتية، وهي التحفة التي دائما ما تثير فضول المارة.
لكن الذي يثير الفضول أكثر هو الاسم المكتوب على ناصية المبنى "BARAKAT"، ورغم أنه يبدو عربيا بوضوح، فإن قلة حضور العرب في كوريا، وكذا قلة اهتمامهم بالآثار والفنون التشكيلية، وكذا تميز المبنى، إذ يعتبر أفضل معرض آثار وفنون تشكيلية خاص في كوريا، كل هذا يجعل الناس يستبعدون أن يكون عربيا، ويتوقعون أن الأمر مجرد مصادفة لغوية.
ولكي أقطع الشك باليقين، سألت موظف الاستقبال الكوري، فإذ به يجيبني ان بركات هو الاسم العائلي لصاحب المعرض، الأستاذ فايز بركات، وهو فلسطيني.
تلال الخليل
في يوم من أيام سنة 1878، كان الحاج أحمد بركات يحرث أرضه على سفح إحدى تلال الخليل، حين أدرك أنه يقف على خبيئة ما، ثم سرعان ما اكتشف أنها كانت مقبرة، ولم يمض الكثير من الوقت ليحدد علماء الآثار عمر تلك القبور. وقد كانت تعود إلى العصر البرونزي، تحديدا عصر نبي الله إبراهيم، سنة 1900 قبل الميلاد.
هكذا بدأت قصة عائلة بركات مع عالم الآثار، مفاجئة ومشوقة، وحين رأى فايز بركات النور سنة 1949، كانت عائلته تملك متاجر في القدس وغيرها، وتتعاون مع علماء آثار لدراسة التحف الأثرية وتقييمها وتطوير تقنيات حمايتها من التلف، وقد حظي وهو في مقتبل العمر بفرصة العمل في فريق عالمة الآثار الشهيرة كاثلين كينيون، كما درس الأركيولوجيا على يد عالم الآثار ويليام دنفر.
أهلته المعارف الكثيفة النظرية والميدانية التي تلقاها منذ صغره ليصبح واحدا من أفراد قليلين يعرفون الخريطة الأركيولوجية للخليل والمنطقة كما يعرفون أكفهم، ويميزون بنظرة واحدة بين الأصيل والمزور من القطع الأثرية، ثم حصل على منحة فولبرايت للدراسة في أميركا. وهناك أدرك فايز بركات ضرورة الانتقال بعمل العائلة إلى مستوى آخر.
وعن ذلك يقول "كان لدي هدفان من الخروج بعمل العائلة من فلسطين، الأول أن أحمي التحف الأثرية من التعرض للتدمير أو المصادرة من طرف الاحتلال خصوصا أننا اضطررنا لإغلاق معرض داخل الخط الأخضر بعد كثير من المضايقات والضغوط لبيع القطع الأثرية لجهات يهودية. والثاني أن أتيحها للدراسة على يد الخبراء وأجعلها في متناول المهتمين من مختلف الشعوب، ليقرؤوا من خلالها تاريخ فلسطين".
ولاحقا اهتم فايز بركات بجمع تحف أثرية من مختلف البلدان، وخلال نصف قرن، صارت مجموعة بركات للآثار الأكبر من نوعها في العالم، وقد عرضت في مدن عالمية، مثل لندن ونيويورك وهونغ كونغ وغيرها.
دعوة للتواضع
واجهات المعرض زجاجية، يرى الزائر باطنها من ظاهرها، وفي باطنها تحف إسلامية فائقة الجمال، مزهريات عثمانية من البلور المزين بالذهب، وزرابي فارسية نسجت بخيوط ذهبية، واستغرق نسج الواحدة منها سنة كاملة، ومفتاح ذهبي للكعبة، وقطعة من سقف قصر أموي.
وإلى جانبها أيقونات مسيحية وقطع فرعونية ويونانية ورومانية وهندية وصينية وخميرية، وأخرى من حضارات آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية وقبائل إفريقيا، فكأنها ملحمة البشرية ماثلة أمام عينيك، ترويها لك تلك الآثار الصماء.
وعن هذا التنوع يقول بركات "حرصت على جمع تحف من كل الحضارات، حتى تلك التي لم يكد عموم الناس يسمعون بها، مثل وسط آسيا والدوغون في مالي، ففي الستينيات والسبعينيات والتسعينيات، دأبت جل المتاحف على الإعلاء من شأن حضارات وشعوب معينة، وتجاهل أخرى، فأحببت أن أقدم للناس عرضا بانوراميا للبشرية، بكل تلاوينها".
ويضيف أنه "في عالم مليء بالنزعات العنصرية التي تدعي تفوق هذا العرق أو ذاك، نحن بحاجة إلى التأمل في إبداعات مختلف الشعوب، والاعتراف بمساهمة كل الشعوب في بناء حضارتنا البشرية، وخصوصا الحضارة التي أنتمي لها، إنها دعوة للتواضع والاعتراف بالآخر والتعايش".
قلب الصور النمطية
أما الزوار الكوريون فكثيرا ما يعبرون عن دهشتهم حين يرون تنوعا لا يرونه حتى في المتحف الوطني الكوري، وكذا حين يعرفون قصص تلك التحف، أما حين يقابلون فايز بركات وهو حريص على استقبال الزوار والتفاعل معهم، ثم يعرفون أنه عربي مسلم فلسطيني، فغالبا ما تزيد دهشتهم.
وعن ذلك يقول "الإعلام الغربي طبع في أذهان الناس صورة نمطية عن الإنسان العربي والفلسطيني، وهي صورة مرتبطة بالأساس بالحروب والصراعات واللجوء والفقر، ولهذا فحين تقابلهم صورة مختلفة، عن إنسان فلسطيني مهتم بالآثار والثقافة والفنون التشكيلية ويقدم عمله في أرقى أحياء سيول، فإن تلك الصورة النمطية تنقلب إلى الإعجاب والاحترام".
أما الزوار العرب، فتفاعلهم مختلف عن تفاعل الكوريين، وفي بلد توجد فيه جالية عربية صغيرة، الجزء الأكبر منها لاجئون دخلوا البلاد مؤخرا، يتعرضون من حين لآخر لحملات تشويه من طرف بعض الجهات المعادية للأجانب، فإن المغترب العربي أحوج ما يكون لنماذج عربية ناجحة ومشرفة، يفخر بها ويفاخر بها أمام أهل البلد.
وفي هذا يقول حسن، وهو محام مصري مقيم في كوريا الجنوبية "كلما مررت رفقة أصدقاء كوريين من هذا الحي، أحرص على تعريفهم بمعرض بركات، وأذكر لهم أن صاحبه عربي فلسطيني، وأن المعرض مصنف كأفضل معرض من نوعه في كوريا، كما أدعوهم لرؤية التحف الإسلامية والفرعونية، فأشعر بشحنة كبيرة من الافتخار والاعتزاز، وأنا أرى في وجوه أصدقائي الكوريين الإعجاب والانبهار".
شفرة وراثية للذكريات
وبالإضافة إلى كونه جامع تحف أثرية، فإن فايز بركات فنان تشكيلي أيضا، ولوحاته الفنية معروضة في صالات عرض عالمية، ويعتبر بعض النقاد الفنيين نمطه الفني فريدا من نوعه، خليطا من المدرسة التجريدية والانطباعية.
وعن ذلك يقول "كنت محظوظا بمقابلة فنانين عالميين، مثل بيكاسو، كليفورد ستيل، خوان ميرو وغيرهم، كما تأثرت كثيرا بأسلوب كلود موني وجاكسون بولوك، وظلت الرغبة في الرسم ترافقني لسنين طويلة، ولما توفي ابني سفيان وهو في ريعان الشباب، ثم توفيت والدته رحمها الله، وجدت في الرسم وسيلة لأعبر عن الألم وكثير من المشاعر التي يصعب أن أشرحها بالكلمات. إذا جاز لنا أن نتخيل شيفرة وراثية لذكرياتنا وأحلامنا وآلامنا، فإن الرسم هو النسخة المرئية لتلك الشيفرة".
جسر ثقافي
كما يحرص فايز بركات على تقريب الفنانين العرب من الجمهور الكوري، وفي هذا الإطار فتح صالته للفنان المغربي البريطاني حسن حجاج.
ويقول عنه "حجاج يقدم صورة المرأة العربية المنتقبة بطريقة ذكية ومبدعة، ليقرأها المتلقي بطريقة مختلفة عن تلك التي يروجها الإعلام الغربي. كما يسخر من ثقافة الماركات العالمية بذكاء. وقبله عرضنا للفنان الغاني إيل آناتسوي، وهو أيضا يعرض الثقافة الأفريقية في قالب متميز. نحب أن نكون جسرا ثقافيا يقرب الجمهور الكوري من الثقافة العربية والأفريقية وغيرها من ثقافات لم تنل حظها الذي تستحقه".