ضد عالم بلا حب.. حكاية التغريبة والأرض الفلسطينية من المنفى

يشكّل أدب "التغريبة الفلسطينية" المكتوب باللغات العالمية صورة جديدة عن العالم المعاصر، إذ لا تزال مفردات الاحتلال والتهجير والمقاومة والمنفى رائجة في القرن 21 الذي يشهد محاولات أدبية لاستعادة الرواية من شباك الاستعمار.
وقد نشر موقع "ميدل إيست آي" (middleeasteye) البريطاني قراءة للكاتبة الأميركية بيلين فيرنانديز، لرواية "ضد عالم بلا حب" الجديدة للروائية الفلسطينية سوزان أبو الهوى المقيمة في ولاية بنسلفانيا الأميركية.
وعندما تُحاكَم نهر -البطلة الفلسطينية في الرواية- في محكمة إسرائيلية، تجري المحاكمة بالكامل باللغة العبرية، ولا تكتشف نهر حتى دخولها السجن طبيعة جريمتها المزعومة.
تفرد الشخصية
ومع إجراء المحاكمة قرب نهاية الكتاب، يكون القارئ قد أدرك بما يكفي صفة "التفرد" في شخصية نهر.
تتصرف نهر بطريقة تقليدية وتلقائية في قاعة المحكمة مما يمثل صدمة كبيرة للحضور. وتغني نهر بعض الأغاني العربية، على أمل أن تجعل زوجها بلال -وهو نفسه سجين لدى إسرائيل ونموذج للتحدي- فخورا حيث كان.
"بدأتُ بأغنية: يما مويل الهوى، لأهيئ المزاج. حذرتني القاضية. انتظرت بعض الوقت، ثم غنيت كل أغنية أذكرها لعبد الحليم حافظ: الهوى هوايا، ثم قارئة الفنجان. وتحيرت القاضية، ثم غضبت، وصرخت في وجهي، وفي وجوه وكلاء النيابة، والمحامين، والمحضّرين. وأمرت الحراس بإسكاتي".
أثناء غنائها، تلخص نهر -التي تحكي بضمير المتكلم في الكتاب- وظيفة أدائها للقارئ، "لقد استعمرت مساحة سلطة المستعمر. لقد حررت نفسي داخل القيود وجعلت قاعة المحكمة أسيرة لحريتي".
"ضد عالم خال من الحب" عنوان الرواية الجديدة للكاتبة الفلسطينية-الأمريكية التي سحرت قلوب القراء برواياتها الأزرق بين الماء والسماء،بينما ينام العالم وغيرها
"تبرهن سوزان ابو الهوى على انها حكاءة رفيعة الطراز،فبلغتها الشاعرية،وحبكتها المحكمة تجعل من التجارب العادية احداثا مذهلة pic.twitter.com/Dra17GcxWO— 📚الكتبجي (محمد)📚 (@kotobji1) August 3, 2020
يتضح أن كلمات نهر تتلاءم مع السياق التي صدرت فيه الرواية، لأن "ضد عالم بلا حب" بحد ذاتها تشكل تحديا للروايات الاستعمارية ومحاولة استعادة المساحة الفلسطينية، من قبل أبو الهوى وشخصياتها.
سوزان أبو الهوى كاتبة فلسطينية أميركية وناشطة في مجال حقوق الإنسان وعالمة أحياء، تعود أصولها للقدس وهي تقيم حاليا في ولاية بنسلفانيا الأميركية. ألّفت العديد من الكتب، منها: "الأزرق بين السماء والماء"، وروايتها الأولى الشهيرة "الصباح في جنين" عن أجيال مختلفة من عائلة لاجئة فلسطينية، ونُشرت بأكثر من 30 لغة وباعت أكثر من مليون نسخة حول العالم.
والروائية المقدسية الأصل هي أيضا مؤسسة منظمة "ملاعب لفلسطين"، وهي منظمة تبني مساحات ترفيهية للأطفال تحت الاحتلال الإسرائيلي.
من كتاباتها وظهورها العلني، تبدو سوزان -تماما كما تفعل شخصيتها نهر الخيالية- غير مبالية بأحكام الناس تجاهها. ومن أمثلة ذلك أنها عام 2010 واجهت علنا المحامي الداعم لجرائم الحرب الإسرائيلية ألان ديرشوفيتز، في مهرجان بوسطن للكتاب، وبهدوء دمّرت حججه وردت عليها.
المكعب
"ضد عالم بلا حب" مقسمة إلى 7 أقسام، كل منها يبدأ بمشهد من مكعب "الأعجوبة التكنولوجية"، حيث تم سجن نهر في ختام محاكمتها. وهو (أي المكعب) زنزانة انفرادية آلية بالكامل تقريبا، مما جعلها "مشهورة في "الدوائر الأمنية" وشركات السجون الخاصة وشركات تكنولوجيا المراقبة.
والدة نهر، كانت لاجئة من حيفا عام 1948، وكانت حاملا عندما جعلتها إسرائيل مرة أخرى لاجئة عام 1967، إذ كانت تهرب مع زوجها عبر نهر الأردن عند جسر اللنبي الذي انهار.
"أخبرتني أمي: دعوت الله عندما عبرت أنا ووالدك النهر، وعقدت صفقة مع النهر. قلت إنني سأسميك على اسمه إذا لم يبتلع أيا منا. لكن أن تسميني الأردن سيكون غريبا جدا، هكذا حصلت على اسم نهر".
نشأت نهر (مثل الكاتبة) في الكويت. وربطت نهر علاقة مع امرأة كويتية مسنة تُدعى أم براق، تدير عملا للدعارة. تقترب منها أم براق بعد رؤيتها ترقص في حفل زفاف. وتنضم نهر -دون تفكير- إلى المجموعة لتبتزها أم البراق للبقاء، ثم تقرر نهر استخدام دخلها من هذه الأنشطة ووظائفها الأخرى لإلحاق شقيقها بالجامعة.
حول ما يسميه الناس الذين لا يعرفون "الرقص الشرقي": الرقص بتحريك الخصر، كتبت أبو الهوى "رقصنا يدور حول الفوضى، إنه نقيض السيطرة. يتعلق الأمر بالتخلي عن السلطة على الجسم، ومنح الاستقلال الذاتي لكل العظام والأربطة والأعصاب والألياف العضلية. على كل الجلد والخلايا الدهنية".
وفي 2 أغسطس/آب 1990، أرسلت أم براق نهر للرقص في حفلة لضباط الجيش السعودي، حيث تم إنقاذها في النهاية من اغتصاب جماعي عندما غزا العراق الكويت، ورحلت الأسرة إلى الأردن لاجئة مرة أخرى.
تلاحظ نهر أن "الانتقال من مكان إلى آخر هو مجرد شيء يتعين على المنفيين فعله. مهما كان السبب، فإن الأرض ليست ثابتة تحت أقدامنا".
في حالتها، بالطبع السبب هو إسرائيل، التي -بالإضافة إلى اغتصابها ماديا للأرض من تحت أقدام الفلسطينيين- سعت أيضا إلى القضاء على مفهوم الذات الفلسطينية، وهو جهد ليس للقضاء المبرم على المساحة التي يعيش فيها الفلسطينيون فحسب، بل أيضا للقضاء على حقهم في البقاء في المقام الأول. ولسوء حظ إسرائيل، لا يتنازل البشر عن هذا الحق بسهولة بالغة.
في عمّان، تصنع والدة نهر لنفسها اسما بتطريز أثواب الزفاف، مما دفع نهر إلى التفكير "كان علي أن أصبح شخصا آخر، شخصا خاليا من الخزي والاغتصاب والنفي، لأقدّر تماما أن والدتي -وهي أرملة بسيطة حاصلة على تعليم ابتدائي- كانت فنانة غير عادية. كانت والدتي صانعة للجمال، وحافظة للثقافة والتاريخ".
العودة للوطن
يأتي زفاف نهر الثاني من بلال بعد اتفاقيات أوسلو عام 1993، والتي تسمح لنهر باستعادة وثيقة هويتها الفلسطينية والسفر إلى فلسطين لتأمين طلاقها من زوجها السابق.
وتبدأ عودتها إلى الوطن بالتحقيق العقابي الإجباري والانتظار لمدة 6 ساعات على الحدود الأردنية الفلسطينية، وبعد ذلك تحتضن المناظر الطبيعية وتتنفس بعمق.
"ذكريات رحلات الطفولة والقصص من أفراد الأسرة والجيران، حتى تلك التي اعتقدت أنها قد غادرت ذاكرتي.. كانت جميعها هناك لتحييني، وتغمرني بعد خروجنا الجماعي من هذا المكان حيث القصص تذهب وتعود".
وتتابع أن عملية العودة هي استعادة للأرض والتاريخ والهوية، وتأكيد على أن إسرائيل حاولت جاهدة القضاء عليها "هنا حيث بدأنا. حيث وُلدت أغانينا، ودفن أجدادنا. أصوات الأذان: غمرني الأذان وأوقف شعر ذراعي، أغمضت عيني واستنشقت الدعوة للصلاة".
تقيم نهر مع بلال ووالدته في الضفة الغربية، حيث أقام المستوطنون اليهود متجرا على أرض العائلة. تم إطلاق سراح بلال للتو من السجن الإسرائيلي بموجب اتفاقية أوسلو، فأخذ زوجته في نزهات طويلة، يعلمها عن النباتات المختلفة التي يلاقونها و"الفلكلور المرتبط بها، واستخدامات الطهي، والقيمة الطبية لها".
يقطفان الزعتر البري معا، والرمان من حين لآخر. "الحياة لم تنمُ بهذا الجموح في الكويت أو عمّان". في الواقع، أحد المجالات التي تتفوق فيها سوزان أبو الهوى بلا شك هو عرض مركزية الأرض والزراعة بالنسبة للوجود الفلسطيني، وهو رابط جوهري لم تتمكن إسرائيل من اقتلاعه من خلال أي كمية من القنابل والجرافات، بحسب عرض الموقع البريطاني.
ثم هناك بساتين الزيتون الخاصة بالأسرة، والتي تكون -خاصة في موسم الحصاد- هدفا لهجمات مسلحة وإضرام نار من قبل المستوطنين والجنود. أما فيما يتعلق بتعاملات الزراعة الأخرى من قبل من يسمون أنفسهم أزهار الصحراء، فإن "إسرائيل تقنن المياه للفلسطينيين، وخاصة المزارعين، ثم تنتقل إلى مصادرة المزارع والبساتين من الأشجار الميتة لإهمالها".
من أجل إنقاذ أشجار لوزه المحتضرة، تمكّن بلال من تحويل المياه من المستوطنة، وهو إجراء يتطلب من نهر توصيل الأنابيب في الظلام بينما يطلق الألعاب النارية لإلهاء الجنود في المنطقة. ويُقبض عليه مرة أخرى بسبب المفرقعات، لكن أشجار اللوز تعيش.
بلال لديه قطيع من الأغنام والماعز يعتني به راع اسمه جندل. أطلق الجيش الإسرائيلي النار على جندل، وحزنت نهر: "جندل كان يعطي استمرارية لتقليد فلسطيني قديم. وبدأ ذلك التقليد أيضا يختفي، وربما كان الهدف من قتل جندل وحيواناته قتل ذلك التقليد. كان يعرف تلك التلال كما يعرف جسده".
تندمج نهر تدريجيا في أنشطة المقاومة، ويبدو للحظة أن فلسطين ستكون المكان الذي تثبت فيه الأرض أخيرا تحت قدميها، لكن عائلتها بقيت في الأردن. "بينما كانت فلسطين المكان الذي أنتمي إليه… لا يزال الكثير مني مشتتا في أماكن أخرى". وتقول إن هذا هو ما يعنيه النفي والحرمان من الميراث: "عبور الحدود المغلقة، وعدم الوجود في أي مكان. البقاء في مكان يعني تمزيق طرف من مكان آخر".
تعتبر رواية سوزان أبو الهوى آسرة بشخصيات أكثر إنسانية في تعقيداتها وتناقضاتها. بلال -على سبيل المثال- هو شيوعي يذهب أيضا إلى المسجد، وفي المكعب طلبت نهر كتابا عن الشيوعية لتُعطى كتابا عن الكيفية التي ستُدمِّر بها الشيوعية العالم.