أرستقراطي "بوندو" وعالم مسلم وعبد مُحرر ونبيل بلندن.. رحلة أيوب سليمان ديالو في القرن 18
![Portrait d'Aruba Suleiman Diallo, dit Job ben Solomon, par William Hoare, 1733 (National Portrait Gallery)](/wp-content/uploads/2020/08/1-52.jpg?resize=770%2C513&quality=80)
في عام 2015، وقع اكتشاف مذهل في المكتبة البريطانية، يتمثل في رسالة من أيوب سليمان ديالو -المولود بوادي نهر السنغال- إلى والده، وقد شكّلت هذه الرسالة غير المعروفة حتى ذلك الوقت أمرا جديدا من 3 أوجه: أولا من جغرافيتها: لماذا وجدت هذه الرسالة في لندن؟ ثم من صيغتها: لماذا كتبت بلغات ثلاث هي الإنجليزية والعربية والفرنسية؟ وأخيرا، من هدفها: فما الذي تعنيه الشخصيات السنيغامبية الـ32 التي حددها أيوب في رسالته؟
بهذه المقدمة، مهدت صحيفة ليبيراسيون الفرنسية لمقال بقلم جان بيير بات، حاول فيه إلقاء الضوء على حياة صاحب هذه الرسالة، منبها إلى أنه من أجل فهم أسبابها وعواقبها لا بد من إعادة النظر في سيرة مؤلفها، إذ وُلد أيوب سليمان ديالو عام 1701 في بوندو، وهي مملكة تأسست في القرن 17 وكان لها نفوذ كبير في هذه المنطقة.
والمنطقة السنيغامبية هي اسم تاريخي لمنطقة جغرافية في غرب أفريقيا، تقع بين نهر السنغال في الشمال ونهر غامبيا في الجنوب، وتقع حاليا بين دول السنغال وغامبيا وغينيا بيساو بالإضافة لأجزاء من موريتانيا ومالي وغينيا.
رحلة أرستقراطي مسلم من بوندو
يقول الكاتب إن أيوب سليمان ديالو هو حفيد إبراهيم ديالو الفولاني (من شعب الفولاني في غرب أفريقيا) الذي أسس كيانا سياسيا في بوندو بإذن من ملك فوتا تورو، وظل يواجه تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي مع "دولة الأئمة" (وتعرف بـ"ألماميات" في عدد من اللغات الزنجية).
وبنى أتباع إبراهيم ديالو موقفهم من العبودية على فهم للشريعة الإسلامية، وأعلنوا "حماية كل من يلجؤون هنا (في بوندو) من العبودية، مع أن هذا الامتياز كان مخصصا لمن ينطقون بشهادة أن لا إله إلا الله"، أي المسلمين.
وهكذا، فإن أيوب ينتمي إلى سلالة من علماء المسلمين، نشأ في وسط مؤمن، وتلقى تعليمه القرآني على يد سامبا غويلاديو دييغي الذي أصبح ملك "فوتا تورو" فيما بعد، وهو إمام من نبلاء الفولاني، بكل الميزات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ومع أن بوندو تحمي المسلمين من العبودية، فإن هذه المملكة تمارس الرق على الكفار. وفي عام 1731، وأثناء سفره مع مترجمه لومين يواس على ضفاف نهر غامبيا لبيع عبدين مقابل بعض الماشية، ألقي القبض على أيوب من قبل أشخاص من شعب الماندي في غرب أفريقيا، وباعوه مع مترجمه عبدين للنقيب بايك من شركة رويال أفريكان.
وقد فاوض أيوب بايك على إرسال رسالة إلى والده في بوندو لدفع فدية عبدين مقابل تحريره، ولكن الجواب لم يأت إلا بعد فوات الأوان، غير أن فكرة كتابة الرسائل إلى والده كانت لها أهمية كبيرة في بقية مغامرة أيوب.
![‘There is no good in the country of the Christians for a Muslim’, states Ayuba Suleiman Diallo in this letter in Arabic, which he probably wrote while enslaved in Maryland after his capture on the coast of Senegal in 1731. Announcing to ‘all the Muslims of Bondu’ that he is alive, he appeals to the rulers of the country and his family to ensure that his two wives do not remarry.](/wp-content/uploads/2020/08/2-45.jpg?w=770&resize=770%2C513)
من العبودية إلى الحرية
بيع أيوب وهو ابن 29 سنة في مستعمرة ميريلاند الإنجليزية في أنابوليس عام 1731، عبدا للعمل في مزرعة تبغ لشخص يسمى تولسي، ولكنه بعد أسابيع قليلة هرب منها، ثم ألقي القبض عليه وأرسل إلى السجن.
وفي هذه الظروف، التقى أيوب المحامي توماس بلوت -وهو قس وقاض أنجليكاني في أنابولي- ليجده عالم دين ومثقفا؛ فتناغمت تقوى الإمام مع الحماسة الدينية للقس الذي أدهشه علم أيوب وثقافته العربية الإسلامية، وعندما ترجم لهم عبد ناطق باللغة الولوفية كلمات أيوب إلى الإنجليزية، اكتشف تولسي وبلوت أنه أرستقراطي مثقف من شعب الفولاني.
وعندها، سمح تولسي لأيوب بكتابة رسالة باللغة العربية إلى والده، فكانت هي الرسالة الشهيرة التي عُثر عليها في المكتبة البريطانية عام 2015، ويطلب فيها أيوب 32 شخصية قادرة على إثبات هويته باعتباره ابن ملك بوندو، مما سمح له أخيرا باستعادة حريته عام 1733.
وَقعت هذه الرسالة الموثقة في يد جيمس أوغليثورب، مدير مركز الأنشطة الإقليمية ومؤسس مستعمرة جورجيا في أميركا عام 1732، وجذبت انتباهه قصة نبيل مستعبد، فقرر إرساله إلى مكتب الشركة بلندن رفقة توماس بلويت، حيث بدأ يتعلم الإنجليزية في الرحلة.
وهنا -كما يقول الكاتب- تأخذ مغامرة أيوب منعطفا جديدا تماما، إذ سرعان ما حصل على كتاب رسمي مختوم بحريته بعد أن وصل لندن في أبريل/نيسان 1733، ثم أصبح هذا الأرستقراطي وابن الملك تدريجيا من المشاهير داخل مجتمع لندن الجديد، وتم تقديمه إلى البلاط والملك الإنجليزي جورج الثاني (توفي 1760) وأفراد العائلة المالكة مثل دوق مونتايغو.
وقد أصبح أيوب معروفا في لندن باسم "جوب بن سالومون"، وقد أثار هذا العالم المسلم العظيم إعجاب المجتمع الإنجليزي بعلمه وتقواه، وفشلوا في تحويله إلى المسيحية بعد أن قدموا له نسخة عربية من العهد الجديد، خاصة أنه كان ذا خبرة في التفسير والمناقشة اللاهوتية، ويرى تناقضا بين مفهوم "الثالوث الأقدس" والتوحيد، ومع ذلك تحدث باحترام عن النبي عيسى عليه السلام كرسول من السماء.
التقى أيوب بالعديد من الشخصيات الأكاديمية المهتمة بالفكر، مثل الطبيب هانز سلون رئيس الجمعية الملكية، وانخرط هذه الفترة في ترجمة وتصنيف المخطوطات العربية في المتحف البريطاني، وصوره الرسام الشهير ويليام هور مع نسخة من القرآن مربوطة حول عنقه في غلاف جلدي، إلا أن هذه الصورة بقيت غير معروفة لدى عامة الناس حتى عام 2010، عندما عُرضت أول مرة في معرض الصور الوطني.
![Memoirs of Ayuba Suleiman Diallo.](/wp-content/uploads/2020/08/3-37.jpg?w=770&resize=770%2C513)
العودة إلى بوندو
في يوليو/تموز 1734، تم تنظيم عودة أيوب إلى أفريقيا عبر غامبيا، بعد أن رأى توماس بلويت وجيمس أوغليثورب أن الحرية لا تكفي دون العودة إلى الأراضي الأفريقية، وقد استعان به الرحالة إنجليزي وعالم الجغرافيا فرانسيس مور، واعتمد عليه لمساعدته في الجغرافيا واستكشاف المناطق النائية بالقارة الأفريقية.
وقد سعى قادة شركة الأنشطة الإقليمية التي كانت وراء متاعب أيوب إلى إعادته لتحقيق هدف محدد، وهو اتخاذه وسيطا أفريقيا في أعمالهم بالمنطقة، آملين ازدهار تجارة الصمغ العربي معهم، خاصة مع الثورة الصناعية النسيجية الناشئة في إنجلترا في القرن 18.
علم أيوب عندما عاد إلى بوندو أن والده قد مات، وسرعان ما استعاد مكانته في العائلة المالكة الأرستقراطية، إلا أن سيرته فيما بعد عام 1734 لم تكن معروفة بالقدر الكافي، لأن توماس بلويت وفرانسيس مور كانا كاتبي سيرته الذاتية التي نشرت عام 1734 بعنوان: "بعض المذكرات المتعلقة بحياة أيوب بن سليمان، عالم بوندا الأكبر في أفريقيا الذي كان عبدا لعامين في ميريلاند، وبعد ذلك نقل إلى إنجلترا وتم إطلاق سراحه وإرساله إلى أرضه الأصلية في عام 1734".
ويمثل هذا العمل آخر فصل من إعادة تحرير أيوب في إنجلترا، فضلا عن كونه حلقة في نضال المحامي بلوت لإلغاء الرق، وقد تمكن من تأليف هذا الكتاب بمساعدة عبد آخر يعمل مترجما بينه وبين أيوب.
وإذا كان بلوت عرف أيوب لمدة 3 سنوات -من أسره إلى تحريره- فقد انتظر فرانسيس مور للحديث عن القصة المذهلة لابن بوندو في لندن، خاصة أنه لم يعرفه شخصيا إلا عند رحلة عودته من لندن إلى سنيغامبيا عام 1734، وبهذه المناسبة كتب شهادته التي يرويها في كتابه "رحلات في الأجزاء الداخلية من أفريقيا"، الذي نُشر في لندن عام 1738.
بعد عام 1734، لم يُعرف عن أيوب إلا القليل، خاصة أنه وجد بوندو مدمرة بسبب الصراع، ولكنه ظل على علاقة مع الشركة التي أعادته، وحافظ على التحالف مع الإنجليز لدرجة أن ذلك أثار له عداوة خصومهم الفرنسيين، وقد بعث رسائل إلى المقر الرئيسي للشركة في لندن راغبا في العودة إلى إنجلترا، ولكن لا يبدو أن رسائله تلقت ردا.
ومن المفارقات أن قصة عبودية أيوب وتحريره وعودته إلى أفريقيا التي استغرقت 3 سنوات بين 1731 و1734، هي أشهر عناصر سيرته الذاتية، حيث انتقل في غضون 3 سنوات، من نبيل فولاني إلى عبد وراء المحيط الأطلسي، ليعود من لندن إلى بوندو مكرما.