أمل دنقل شاعر البسطاء والمهزومين.. بريق "لا" الشعرية في أزمنة الانحطاط العربي
لم يكن الشاعر المصري الراحل أمل دنقل (1940-1983) صاحب الوجه الأسمر والملامح الهادئة والعينين الوديعتين اللتين يملؤهما الدمع دون ضعف، يتعامل مع الكلمات بشاعرية منبعثة من مَلكة الألم التي يعيشها، إذ خاض صاحب "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" تجارب كثيرة، واحتك بفئات مختلفة من غير المثقفين.
حمل دنقل مع الجماهير التي كتب لها شعره، آلام الأمة العربية وضياع نصرها عبر معاهدات السلام المجحفة، متجرعا مرارة طعم النكسة عام 1967، لينعكس كل ألم عاشته البلاد والأمة في شعره، بل في حياته وجسده ونفسيته المرهفة، حيث عومل من قبل السلطات المصرية معاملة لا تليق بشاعر عربي كبير، في حين أغدقت بسخاء على آخرين.
لم ينجر دنقل إلى الأحلام الطوباوية والميتافيزيقا والفنتازيا، ليسقطها على الواقع كما فعل العديد من أبناء جيله، الذين اعتمدوا على الإلياذة وعلى كم هائل من أدبيات فلسفة وميثولوجيا الإغريق والرومان، إنما تجاهل كل ذلك، وفضل أن ينهل من تراث أمته. لقد ترك الآخرين يتعقبون الأسطورة لدى الإغريق والرومان، وعاد حثيثا إلى التاريخ العربي باحثا في أساطيره ووقائعه، ليقدم لنا قصائد من صلب الحياة لا تشعر سامعها أو قارئها أنه غريب عنها، بل يحس أنها معبرة عن آلامه وتطلعاته.
عاد من غوصه في بحر التراث العربي الذي قرأه طفلا في مكتبة أبيه الشيخ الأزهري، مثخنا بقصائد حملها المصريون والعرب على الأكتاف في مظاهراتهم وانتفاضاتهم التي لم تتوقف لتتوج بثورات مجيدة، ليجد نفسه مبكرا في مواجهة غير متكافئة مع السلطة، التي لم تتوان في رميه في مفترق طرق مؤلم، بحسب تقرير الروائي الليبي محمد الأصفر للجزيرة نت.
لا تصالح
يبقى دنقل عازف الكمان في جوقة الشعراء الكبار، وصاحب البيان الشعري الشهير "لا تصالح"، تلك القصيدة التي ارتقت بكلمة "لا" إلى خانة الشعرية العالية، ليتغنى بها أبناء الوطن العربي حالما تفجرت ثورات، وليطوف الثوار حول "الكعكة الحجرية"، قلب ميدان التحرير بالقاهرة مترنمين بقصيدته "سفر الخروج"، التي تترجم تلك الكلمة السحرية بفاعلية، متحدية آلة الدمار، من نار وحديد وبارود وكلاب بوليسية ومدرعات تدهس من يقولها:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
ويواصل أمل زرع مبرراته كي يكون الإنسان شجاعا ولا يهاب شيئا من أجل الحرية:
لا تصالح.. ولو توّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيك
وكيف تصير المليك.. على أوجه البهجة المستعارة
كيف تنظر في يدي من صافحوك، فلا تبصر الدم في كل كف..
لا تصالح.. فليس سوى أن تريد
أنت فارس هذا الزمان الوحيد
وسواك المسوخ!
لا تصالح…
جمالية الكلمات الشعرية في قصائد دنقل كانت ترتفع من مجرد المشاهدة الفورية الممتعة إلى التأمل المعرفي المنتج، فقد تمكن دنقل من أن يحدث شرخا في القصيدة العربية، استطاع من خلاله كثير من الشعراء اللاحقين أن ينفذوا منه إلى أفق جديد ومتميز، فقلما نجد الآن شاعرا من شعراء التفعيلة لم يتأثر -ولو بقدر- بقصيدة أمل دنقل الرافضة المحتجة المتألمة.. فأمل هو صاحب كلمة "لا" الشعرية بامتياز.
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة.
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى.. أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان.. وجمجمة،
وشعاري: الصباح!
وبخلاف مواجهته للسلطة بالشعر، فقد أشهر قصائده في وجه النوائب الخاصة والخيبات الشخصية التي حوّلتها ذاته بشاعريتها لتعبر عن الجميع كقصيدته "أوراق الغرفة 8" التي عبر فيها عن معاناته من مرض السرطان:
بين لونين: أستقبل الأَصدِقاء..
الذين يرون سريريَ قبرا
وحياتيَ.. دهرا
وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ تُرابِ الوطنْ!
بدايات غير منشورة
وصدر بعد مرور أكثر من 30 عاما على وفاة دنقل كتاب جديد بعنوان "أمل دنقل.. قصائد لم تنشر"، يضم عشرات القصائد التي لم يسبق نشرها لهذا الشاعر الموهوب.
في مقدمة الكتاب -الذي يقع في 208 صفحات من القطع المتوسط- فسر المؤلف أنس دنقل، وهو شقيق الشاعر، أسباب تأخر صدور الكتاب بوجود خلافات بين أرملة الشاعر الصحفية عبلة الرويني وبين عائلته التي تقيم في محافظة قنا (جنوب الصعيد)، وهو ما أعاق صدور هذا الكتاب لمدة طويلة.
لكنه كشف أيضا أن دنقل كتب عملين لم ينشرا حتى الآن، وهما مسرحية بعنوان "الخطأ"، مكتوبة في مطلع ستينيات القرن الماضي، تتناول بالنقد أنظمة الحكم العسكرية، والعمل الثاني بعنوان "قريش عبر التاريخ"، وهو عبارة عن دراسة نثرية، واعدا بنشرهما قريبا.
يضم الكتاب عشرات القصائد الطويلة والمتوسطة والقصيرة، معظمها كتبت في بواكير حياة الشاعر، وهذا هو سبب ضعفها الفني أحيانا كما يقول النقاد، ولكنها تشير أيضا إلى موهبة مبكرة في كتابة الشعر نضجت كثيرا في آخر أيام حياته عندما كتب قصيدته الشهيرة "لا تصالح" على لسان الملك "كليب" ضمن ديوان "أقوال جديدة عن حرب البسوس".
القصائد غير المنشورة سابقا تنوعت بين السياسي والقومي والرومانسي والمناجاة، ومن بين قصائد الكتاب قصيدة بعنوان "إهداء"، تتحدث عن تغول أجهزة الأمن في مراقبة المثقفين والأدباء والشعراء، يقول فيها:
للشرطي السري الآكل لحم أخيه..
كي يطعم منه زوجته وبنيه
ويعود ليطبق فمه الدموي
حتى لا يسقط منه فتات الخبز اليومي!
كما كتب قصيدة بعنوان "بكائية إلى تل الزعتر"، المخيم الفلسطيني في لبنان، يقول فيها دنقل: رويدك لا ترتفع يا علم/ رويدك إن العصافير غابت عن الحقل/ وهي التي حملتك مناقيرها الخضر/ (في سنوات التدلي)/ وظلت ترفرف عبر سماء الحلم/ فهل أنت ناس؟
ولم يكتب أمل دنقل الشعر الحر فقط، وهو اللون الذي اشتهر به، بل كتب أيضا بالفصحى ملتزما بالوزن والقافية، ومنها قصيدة بعنوان "نهر الخطايا" جاء فيها:
ونهر طهر لديه * تذوب كل الخطايا
النور يسكب فيه * مشاعرا كالشظايا
أتيته وذنوبي * تلف كل الحنايا
معاصيا في معاصي * أنفقت فيها صبايا