حدث في الذاكرة.. الشاعرة المصرية إسراء النمر والظلام المنبعث من البنايات المهجورة
في هذه الزاوية تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتّاب ليتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا، أو مسرحيين ومترجمين، أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.
وفي الوقت ذاته، تعد هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع ليتعرّف على جزء حميمي، وربما كان سريّا لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.
ضيفتنا اليوم الشاعرة والصحفية المصرية الشابة إسراء النمر، التي ولدت في القاهرة عام 1991، ودرست الصحافة في كلية الإعلام جامعة القاهرة. ومنذ يناير/كانون الثاني 2011 بدأت إسراء العمل الصحفي، وخلال السنوات التسع الماضية عملت في الكثير من الصحف المصرية، إلى أن استقرّت متفرغة للعمل في جريدة "أخبار الأدب".
في يناير/كانون الثاني الماضي، صدر لها أول ديوان شعري بعنوان "العيون التي غادرت سريعا" عن الهيئة العامة المصرية للكتاب.
وهنا إجاباتها عن الأسئلة التي طرحتها عليها الجزيرة نت:
قطة بيضاء تخرج من الحائط
هناك مشهد لا يغيب أبدا عن ذاكرتي؛ وهو أنني في إحدى الليالي، عندما كنت في الخامسة من عمري، ظللتُ أرتجف وأبكي لأنني رأيت قطة بيضاء تخرج من الحائط، وتدخل جسدي بأريحية شديدة.
من الخوف لم أستطع أن أنادي: "ماما"، لكنني فوجئت بها بعد لحظات تفتح ذراعيها وتحتضنني.. تحتضنني فقط.
حين عادت أمي إلى غرفتها، وجدتُ أختي الكبيرة تهمس لي: "أنا أصدقّك، لأنني أيضا أرى أشياء وأسمع أصواتا تُرعبني". وبدأنا نتبادل الحكايات التي اشتركنا في بعضها، مثل أننا كنا نسمع بعد منتصف الليل أحدا يمشي في صالة البيت، ولا يكفّ عن حكّ قدميه بالبلاط.
العجوز والكرسي الهزّاز
لم تكن شقتنا فقط التي تحمل ألغازا، بل البناية كلها، فكانت هناك مثلا امرأة عجوز تسكن هي وزوجها في الشقة المقابلة، وكانت تستأذن أمي كل يوم لكي أجلس معها ساعة أو اثنتين. لا أعرف لماذا أنا بالتحديد، لكنني كنت أفرح لأن لديها كرسيّا هزازا.
ما من مرة دخلت فيها شقة العجوز إلا وأجد الشقة تعبق بالروائح النفاذة، لدرجة أنني كدتُ في يوم أن أختنق، فسألتها عن مصدر هذه الروائح، فردت بدهشة: "روائح؟ أية روائح يا ابنتي؟"
وفي يوم، كنا نجلس أنا وهي على الكنبة، وكان زوجها يجلس على الكرسي الهزاز. لم تكن العجوز تحدثني أبدًا، ولم يكن زوجها يتحدث، وكنتُ بطبيعة الحال أشعر بالملل. وفجأة سمعت صوت تقليب ملعقة في كوب زجاجي قادم من المطبخ، فسألتها بعفوية: "أنت عندك ضيوف يا تيتا؟" أدارت رأسها ناحيتي ببطء، قائلة بغصة لم أنسها حتى اليوم: "أنا لا يزورني أحد يا ابنتي". فقررت ألا أجلس معها ثانية.
بعد شهر تقريبا تركت العجوز الشقة، وبعد شهر آخر ماتت.
لم أحك لأحدٍ عما حدث، وشعرت لسنوات بالذنب، أنا دائما أشعر بالذنب على أمور لم أفعلها.
مطاردات الوجوه المنحوتة
كانت مدرستي الابتدائية تقع في منطقة ممتلئة بالفيلات المهجورة، وكان يُثيرني الظلام المنبعث منها، والشبابيك المفتوحة، والوجوه المنحوتة في الواجهات. وكثيرا ما وقفتُ أمامها، لاصقة وجهي في بوابة كل منها، علّني أرى أو أسمع شيئًا، وحين بدأت الوجوه المنحوتة تطاردني في الأحلام، أو تتجسد على وجوه الآخرين، توقفت عن هذه العادة.
في العاشرة من عمري، تركنا الشقة وانتقلنا إلى بيت بناه أبي لنا. كنّا جميعا قد وصلنا إلى مرحلة قصوى من الاختناق، وكان لكل منّا أسبابه، أما بالنسبة لي فقد شعرت بأن حياتي مهددة، خصوصا بعد حوادث انتحار الأطفال في شارعنا، ورغم ذلك، حين أفرغوا الشقة من العفش ظللتُ أبكي وأتحدّث إلى الحوائط وإلى كل ركن فيها.
غرفة خاصة للعزلة
وفّر لي البيت الجديد عزلة هائلة، وأمانا كبيرا؛ فقد كانت لي غرفة خاصة، التي لا تزال غرفتي حتى الآن، ولم يكن أحد ينتبه لخطورة ذلك؛ فلقد صرت انطوائية بامتياز، بلا رائحة، أو ميزة واحدة، وكنت أسمع أمي تقول إنني بلا مستقبل، في حين كان أبي يقول اتركيها.. اتركيها تفعل ما تريد.
للأسف صدقت أمي، وسبّب لي هذا جرحًا غائرًا، ولكثرة ما كانت تتحدث عن مواهب إخوتي ولا تتحدث عني شعرت -بل آمنتُ- بأنها لا تحبني.
في سنوات المراهقة ارتبكت علاقتي بالعالم والناس وجسدي، وبالتدريج وجدت أنني أفقد القدرة على التعبير، وعلى صياغة مشاعري، وكان كل ما أريد قوله يحتشد في عينيّ، ووضعني هذا في حرجٍ رهيب، فقد كان بإمكان أي شخص، يتمتع بقليل من الذكاء، أن يعرف بسهولة حقيقة مشاعري تجاهه.
مهارة الإصغاء
لم يكن بيدي في هذه الفترة سوى الإصغاء، ليس فقط للأصوات الداخلية، بل الخارجية أيضًا، وساعدني ذلك على التنبؤ بما يمكن أن يحدث لي وللقريبين، وكانت الأحلام تدعم حدسي وتؤكده، وعلى قدر السعادة التي شعرت بها لأنني أمتلك هذه المهارة، على قدر الألم الذي سببته لي، لأنني كنت أعرف دومًا الموتى القادمين.
في 15 من عمري، لاحت فكرة الانتحار في الأفق، وكنت أقف أحيانًا على السور وأتخيل نفسي وأنا أسقط، أو بالأحرى أطير، فلم أكن قادرة على تحمل عبء الأحلام والأحداث الغريبة، كما أن مشاعري السلبية تجاه أمي كانت قد تفاقمت.
كان أبي يأتي إلى البيت بأوراق ودفاتر كثيرة، فقد كان محاسبًا، وكنت أجلس دومًا لأراقب أصابعه وهي تحتضن القلم بحنو وعطف شديدين. لطالما حلمتُ أن تحتضنني أمي بهذه الطريقة، وفي يوم سرقتُ منه دفترًا لأدون كل ما أثقل كاهلي.
الكتابة والمحو
أول شيء تعلمته في الكتابة هو المحو: كنت أمحو مباشرة كل ما أكتبه من نصوص سردية وشعرية، حتى لا يقع في أياديهم، وجعلني هذا أتعامل مع الكتابة على أساس أنها فعل سري.
وحين جاءت سنة تحديد المصير، اخترت دراسة الصحافة، وكانت مفاجأة كبيرة لهم، لأنني لا أستطيع أن أتحدّث أو أتعامل مع أحد، كما أن فكرتهم عنّي أنّني لا أجيد الكتابة، فقد كان أبي هو من يكتب لي موضوعات التعبير في المدرسة.
خلال سنوات الجامعة عكفت على تعليم نفسي، فاشتريت كمًّا هائلا من الكتب، لأن بيتنا كان يخلو من مكتبة، وبدأت أقرأ وأكتب بشكل يومي، كما بدأت مبكرًا البحث عن عمل.
تقول النمر في ديوانها المنشور حديثًا:
في فترةٍ ما
فترة ليست ببعيدة
أحببتُ رجلاً من زجاج
كلما لمسته
كلما احتضنته
كلما قبّلته
خُدِشْتُ
كلما غضبت
منه
أخبط كتفه بعنفٍ
أو بدلالٍ
فينكسر جزء
منه
هكذا
بقينا
حتى وجدتُهُ
في يوم
محض فتات
أجمعهُ
بيدي.
ماما والشعر
كنت لا أعرف شيئًا عن القاهرة، كنت لا أعرف شيئًا في العموم، ورغم ذلك مشيت وراء صوت يقول إنه الطريق التي يجب أن أسير فيها.
كل ما حدث لي حتى الآن من أمور جيدة وسيئة كنت على علم به مسبقًا، سوى شيء واحد، وهو أنني سأنشر ديوانًا شعريًا، ولا أعرف هل أشكر أمي الآن، أو ألومها؟ فقبل عام واحد، أي حين كان عمري 27 عامًا، أيقظتها في الثالثة صباحًا وأنا منهارة تمامًا، وأسألها بصوت متهدج: هل تحبينني؟ احتضنتني هذه المرة بلا تردّد قائلة: "أحبك يا عبيطة وأؤمن بكِ".
في اليوم التالي مشيت في طريق النشر.