مفكر كاميروني: العالم يدخل عصر "التوحش" وأفريقيا مهد الإبداع
في مقاربة جديدة متعددة الاختصاصات، يخرج المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي (Achille Mbembe) بمفهوم جديد وجامع، يقرأ من خلاله الفكر والتاريخ البشري، ألا وهو "مفهوم التوحش".
وفي مقابلة مع مجلة لونوفيل أوبسرفاتور الفرنسية بمناسبة صدور كتابه الأخير، يتحدث مبيمبي (1957) وهو أستاذ جامعي ورئيس مركز للدراسات في جامعة بجوهانسبورغ عن مفهومه المصمم لقراءة ماضي وحاضر واستشراف مستقبل الإنسانية.
ويرى هذا المفكر الأفريقي المنشأ الذي مزج بين الدراسة في فرنسا والتدريس الجامعي في الولايات المتحدة، مما أكسبه بعدا عالميا، أن الطرح التقليدي لإشكالات كبيرة مثل الهوية وانزلاق الديمقراطيات إلى السلطوية والعنف المتزايد على الطبقات الهشة والهجرة والتعايش مع المحيط الحي، يصعب دراسته في إطار اختصاص علمي واحد.
ولدعم قراءته الجديدة للكون، فقد أقام مبيمبي مع الاقتصادي والكاتب السنغالي فيلوين سار ورشات فكرية في العاصمة السنغالية دكار منذ عام 2016، لتكون ملتقى مهما للحياة الفكرية.
مجتمعات الاستعمار
وانطلاقا من دراساته للمجتمعات الخارجة من الاستعمار في أفريقيا، وكيف مارست السلطات عنفها عليها، قال مبيمبي إنه لاحظ أن هذه الظاهرة ليست نابعة من هذه القارة، بقدر ما هي نتاج استخدامها من قبل الاستعمار كمختبر لدراسة نظام آخر للاستغلال أكثر شراسة.
أما اليوم، فيرى المفكر الكاميروني أن السياق تغير مرة أخرى بالدخول في عصر الحاسوب الذي أضاف إلى الآليات الاستعمارية التقليدية، آلية جديدة أكثر شراسة وعنفا، بقدر ما هي مخفية وراء تطبيقات حاسوبية افتراضية.
وقد ولد مفهوم "التوحش" من رحم ظاهرة العنف المتزايد المدعوم بالتقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي وظاهرة التغير المناخي المدمر، وهو مفهوم إجرائي يسمح بطريقة ديناميكية بتفسير تصدع العالم.
مظاهر التوحش
ويتجلى مفهوم التوحش -كما يقول الكاتب- على مستوى أفريقيا بتواصل الاستغلال ولكن بطرائق مختلفة، إذ لم نعرف حتى الآن سوى الآلام الجسدية والمعنوية، تحت عناوين مثل سياسات تقشفية برعاية المؤسسات المالية الدولية، وتخزين النفايات السامة، وتسمم البيئات الحية.
وترعى هذا التوحش -حسب المفكر- فلسفة قائمة على مفهوم "الغلبة للأقوى"، وتتمحور حول من يحق له أن يملك الأرض وما عليها، وبالتالي فإن التوحش يتلخص في التخلص من الأضعف الذي ينظر له بأنه يشكل عبئا على الأرض والميزانيات الوطنية، مما أدى إلى إعادة توزيع غير متكافئ لوسائل الإنتاج حول العالم.
أما بالنسبة للقوى التي ترعى هذه الحركة، فهي القوى المالية مسنودة بالتكنولوجيا الرقمية وأنماط الحروب الجديدة، وهي قوى تستهدف الجسم والأعصاب، تماما كما كان يستهدفها المستعمر قديما بصورة بدائية.
ومن خلال مفهوم التوحش -يرى الكاتب- أن ممارسات مثل العنصرية والعبودية لم تعد لها الدلالات ذاتها، ويفسر التوحش ذلك باختفاء "السيد" الذي لم يعد مجسدا في شخص أو جهة محددة يمكن التعامل معها، ولكن تأثيره ما زال موجودا وبصورة أقوى وأشد حيث لا يدري أحد.
أما فيما يخص الهوية، فقد كشف الكاتب تناقض أغلب المثقفين الفرنسيين، الذين يدعون من جهة لقيم عالمية، ويدافعون في الوقت نفسه عن ماضي فرنسا الاستعماري الذي يرفض الدعوات للقبول بهويات مخالفة.
نغمة أمل
ويرى المفكر أن على فرنسا خاصة تغيير أساليبها في التعامل مع مستعمراتها القديمة، وذلك بالتوقف عن الدعم العسكري للدكتاتوريات الدموية والمرتشية، وإنهاء التبعية المتجسدة في الفرنك الأفريقي ومؤسسة الفرنكوفونية وسياسة القواعد العسكرية.
وعند السؤال عما يمكن أن يستفيده العالم من أفريقيا، يقول المفكر إن هذه القارة هي مهد الإنسانية، وإن من يزورها يرى معظم الناس ينسجون أو يصلحون شيئا ما كسيارة أو حذاء أو قماش ممزق، وكأنهم يعيدون الجمع بين أشياء تم فصلها أو تعرضت للتمزق أو الكسر، ملمحا إلى فكرة أن هذه الأعمال ترمز لفكرة الإصلاح.
أما على المستوى الفكري، فأفريقيا -حسب المفكر- ليست مجرد احتياطي للموارد، بل هي مكان للإبداع والقدرات والتفاعل مع كل جديد.
ويختم الكاتب مقابلته بنظرة تفاؤلية للعالم، يقول فيها إن أسباب الأمل كثيرة ولكنها غير مضمونة، وإن الإمكانات متوفرة، ولكن الاستفادة منها تحتاج إلى مزيد التفكير والتعاون والوحدة، وهذا ما يسعى إليه مع مفكرين من جميع أنحاء القارة في الورشات الفكرية التي يقيمونها بالعاصمة السنغالية.