ثيمته المنفى وسيرته الضوء وتميمته الترحال.. المصور العالمي جوزيف كوديلكا
متأبطا آلة تصويره، ومتدثرا شغفه، ومنتعلا حريته، ومتوحدا مع حلمه، ومتتبعا النور المنبعث من قلبه.. بوصلته في كل ذلك حدسه وحبه للضوء والصورة، لا يزال شاعر الصورة جوزيف كوديلكا (Josef Koudelka) منذ أكثر من 45 عاما يدمن الترحال في فن التصوير الفوتوغرافي الذي بدأه في ستينيات القرن الماضي بالعاصمة التشيكية براغ.
"مرّت 45 عامًا وأنا أُسافر، لم أبق في أي مكان لأكثر من 3 أشهر، عندما لم أعد أجد شيئا أصوره يكون وقتي انتهى ويجب عليّ المغادرة"، يصرح جوزيف كوديلكا في إحدى مقابلاته الصحفية سنة 2015.
تميمته الترحال
هو يعشق الضوء وانعكاس الظلال، ويشاكس الطبيعة والفضاء والنجوم والأفق الرحب، ويتتبع خطوات الغجر الرحل وسفرهم الدائم نحو عالم المجهول، ويراقب الأبعاد والخطوط والأشكال والتموجات.
بعيني نمر آسيوي يتوثب للانقضاض على فريسته، يقبض كوديلكا على ألوان قوس قزح وهو يطبع قبلته العذرية الفجرية الأولى على شفاه الدوالي (شجر العنب).. فنتصفح معه ألبوم الصور المتناثر بين منحدرات الروح وآثار الحضارات والثقافات والأمم والسنين الخوالي.
هويته كاميراته ومسكنه الضوء، يطارد الصورة ويحاول تحنيطها والقبض على اللحظة الفنية المنفلتة من ربقة الزمان والمكان، في عالم متنافض فوضوي مليء بالحروب واللاجئين والمشردين والمهمشين.
تائها في العراء، مناجيا للبرد، مصاحبا للفقد، مرادفا للمنفى، خفيفا من الأهل والندماء والأصحاب والسكن فـ"لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ، وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ".
منذ غادر بلده الأصلي منفيا على وقع الغزو السوفيتي للتشيك سنة 1968، وهو يبحث عن صورة الوطن المثلى..الوطن الذي تحول عند كوديلكا إلى لون وضوء وظلال وومضة ورائحة وفكرة وصورة مختلقة، في ظل عدم القدرة على العودة "كونك في المنفى هو ببساطة مغادرتك بلدك وعدم قدرتك على العودة. المنفى، هو تجربة شخصية مختلفة، وعن نفسي، فأنا أردت أن أرى العالم وأصوره".
ولد جوزيف كوديلكا في يوم غائم وممطر في شهر يناير/كانون الثاني من سنة 1938 في مورافيا بجمهورية التشيك، ورغم أنه درس الهندسة وتخرج مهندسا للطيران في جامعة براغ، فإن ولعه الكبير بفن الصورة سافر به دون رجعة إلى عالم الضوء والظلال والنور ليحترف التصوير الفوتوغرافي ويتوه في الأصقاع والدروب البعيدة، باحثا عن حلمه وهويته التي ارتضاها لنفسه.
ولأنه أدرك مبكرا "أن الطريق لا تكون طريقا حتى تكون بلا نهاية" ولا مرفأ ولا وصول، وأن عمق الحياة وكنهها الحقيقي يولد من الترحال الدائم، فقد حمل صرة أفكاره على ظهره وأدمن التجوال والتسكع والسفر، ومنذ البدايات الأولى في عشق فن التصوير حمل كوديلكا كاميراته وحقيبة ظهره وتاه في ربوع الكون شرقا وغربا، ينام حيث يدركه الليل في الحدائق والمحطات وفي العراء، ويعيش على الكفاف من مأكل وملبس ليوفر كل ما يملك لشراء الأفلام والإنفاق على هوايته المفضلة.
وربما هذه البدايات القاسية واللذيذة هي التي أعطته منهجه في الحياة وأكسبته خبرة وتجربة متفردة في التوحد مع الفن والذوبان من أجل الفن، وزودته بمناعة قوية ضد إغراءات الحياة والشهرة والمال.
لذلك نراه لاحقا حين أدركته وعشقته الشهرة، لم يتغير ولم تغره شهرته الواسعة ولا جعلته يحيد عن درب الفن للفن الذي حفره ونقشه على حجر تيه البدايات، وهو ما يؤكده في حواره المطول مع المؤلف التشيكي كاريل هفييدالا، الذي نُشر سنة 2002 في كتاب موسوم بـ"جوزيف كوديلكا"، حيث يقول" لمدة 15عامًا، لم أعمل مع أي أحد، لم أقبل أبدًا أي مُهمة، ولم ألتقط ولا صورة مقابل المال، التَقَطتُ الصور لأجلي فقط، عِشت على الحد الأدنى ولم أحتج للكثير.. حقيبة نوم جيدة وبعض الملابس -هي زوج واحد من الأحذية وزوجان من الجوارب وزوج من البنطلونات لمدة عام- كفاني معطف واحد وسترتان لـ3 سنوات".
شاعر الضوء والظلال
ولأن "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير"، كما يقول الجاحظ، يمكن إطلاق ألقاب سبّاك الصورة وشاعر الضوء ونسّاج الظلال ونحّات الأشكال ونقّاش الحجارة، على جوزيف كوديلكا، لأنه لا يساير الجدول في انسيابه والضوء في تدفقه، وإنما ينتظر ويتسلح بصبر الصيّاد ووله العاشق وحدس المبدع والفنان، حتى إذا ما بلغت اللحظة الفنية ذروتها ضغط على زناد وزِرّ آلته الخرساء التي تغدو في يديه طيّعة مطواعة، وتنطق بما شاء لها سيدها من إبداعات بعد أن تكون تضمّخت ومرت بحساسية عينه وخياله الجامح.
لذلك استحالت أغلب صوره لوحات فنية تتخاطفها صالات العرض العالمية، ومثلت أغلب معارضه قطيعة مع المجتر والسائد، وفازت إبداعاته بأشهر الجوائز العالمية المخصصة لفن التصوير بدءا بجائزة بوليتزر ومرورا بجائزة الدكتور إيريش سالومون ووصولا إلى جائزة لوسي وجائزة هاسلبلاد.
وربما غرائبية وعجائبية سيرة آخر رواد فن التصوير الحديث، هو أن صوره عرفت واشتهرت وكانت تنشر في أعرق الصحف والمجلات العالمية قبل أن يعرف.
وقد لعبت الصدفة والقدر والحدس دورا كبيرا في جعل إحدى صوره من أشهر صور القرن العشرين، حيث تعرف العالم لاحقا على مقتنصها وهو جوزيف كوديلكا من خلال الصورة التي تظهر فيها الساعة على ذراعه، لتشير إلى الوقت قبل ساعات قليلة من اجتياح براغ من قبل الاتحاد السوفيتي عام 1968.
وربما "ما جعل الصورة استثنائية أنها تصور حالة الترقب والصمت المطبق الذي يسبق العاصفة، وتحدس بما هو آت، فخلف الساعة ساحة براغ صامتة وخالية كالمقبرة". وقد نشرت هذه الصورة المرجع وصور أخرى تؤرخ للغزو السوفيتي للتشيك، دون الكشف عن هويتها خوفًا من الانتقام.
فحين وقعت الحرب وملأت الدبابات السوفيتية شوارع براغ مُنهية ربيعها سنة 1968، أخذ هذا المصور المغمور يلتقط الصور ثم يهرّب "النيغاتيف" منها إلى "صنداي تايمز" في لندن لتنشر باسم مستعار هو "PP" أي مصور براغ، وهو ما نقرؤه في إحدى الدراسات الكثيرة التي تحفر في سيرة هذا المصور الفنان.
في ذلك الوقت التقط كوديلكا -الذي لم يكن مراسلا صحفيا قط قبل تلك اللحظة- مجموعة من الصور التي كان من المفترض أن تكون لاستخدامه الشخصي فقط. فقام صديقه يوجين أوستروف -مدير قسم التصوير في معهد سميثسونيان بواشنطن- بتهريب بعض أشرطة صور كوديلكا للغزو السوفيتي، من تشيكوسلوفاكيا إلى نيويورك، حيث عَرَضَ أوستروف أعمال كوديلكا على المصور إليوت إيرويت، رئيس وكالة تصوير ماغنوم في ذلك الوقت.
لاحقا، استمرت عملية تهريب أعمال كوديلكا إلى وكالة ماغنوم في فرنسا، حيث تم نشرها وتوزيعها على وسائل الإعلام الدولية المختلفة تحت اسم مجهول خشياً على حياته وحياة أسرته.
ويعتبر كوديلكا أن نهاية ربيع براغ نهاية لحلمه أيضا، حيث أصبح العنف ينمو باستمرار، وكان المصور الشاب يعيش كل شيء بكثافة، ويشعر بهذه التراجيديا الوطنية بوصفها جرحه الخاص، والتي وصفها مرة بأنها أعلى نقطة ألم وصل إليها في حياته، والصور التي التقطها في تلك الفترة ليست للمدينة وحسب بل إنها قصته الشخصية.
وبعد سنتين من نهاية ربيع براغ 1968، رحل كوديلكا إلى باريس حيث حصل على اللجوء السياسي وانضم إلى وكالة "ماغنوم"، ليبدأ رحلة جديدة ومغامرة فريدة في السفر عبر بلدان أوروبا الغربية والتأريخ لحياة الغجر وتنقلهم.
وجد كوديلكا في سلسلة الغجر هذه، ضالته في السفر وفي البحث عن هويته وصورة وطنه المفقود والمنشود، فتوحد مع الغجر وعاش معهم حياتهم القاسية وقاسمهم مأكلهم ومشربهم وفقرهم وتشردهم ومنفاهم وحيرتهم وغربتهم وفلسفتهم.
وانتقل يطاردهم ويطارد حلمه إلى أيرلندا ولندن وأسكتلندا ورومانيا وصقلية وإسبانيا وفرنسا طبعا.
واعتبر النقاد الفنيون أن سلسلة الغجر من أكثر القصص المصورة "تأثيرا في القرن العشرين، حيث تمكن كوديلكا من التقاط رؤية فريدة وغير مسبوقة للحياة اليومية لمجتمعات الروما في أوائل الستينيات ومطلع السبعينيات في جميع أنحاء أوروبا".
الإنسانية أعلى درجات الإبداع
طوال مسيرته الفنية الحافلة بالنجاحات والشهرة والسفر يعلمنا جوزيف كوديلكا أن الجانب الفني الإنساني أهم من الجانب الأيديولوجي، وأن الإنسانية هي مذهبه وأيديولوجيته الوحيدة، لأنها أعلى درجات الإبداع، وذروة الأحاسيس البشرية وأرقاها.
لذلك يعتبر أجمل صوره وأقربها لقلبه تلك "التي ينبثق منها نوع من التصوف قريب من الشعر، وقوة تسمح لنا بالعثور على طريقنا"، ولذلك يردد دائما قناعته بأن "هناك صورًا رائعة وليس هناك مصورون رائعون".
ولعل التراجيديا التي عاشها شابا -"كأعلى نقطة ألم وصل إليها في حياته" كما يردد دائما- لحظة نهاية ربيع براغ على يد القوات السوفيتية الغازية، شكلت حساسيته العالية وإحساسه المتدفق بالآخرين وتوحده معهم كبشر وكموضوعات فنية.
بل إنه حتى في ألمه وجرحه الدائم هذا يرفض أن يصنف الإنسان حسب جنسيته وأيديولوجيته، وينتصر للفنان والمبدع والإنسان فيه حيث يؤكد في إحدى مقابلاته قائلا "أؤمن بأهمية سلسلة صوري للغزو الروسي كوثيقة تاريخية، فهي توضح بالفعل ما حدث في تشيكوسلوفاكيا في عام 1968، لكن ربما بعض الصور الفوتوغرافية -أفضلها- هي ذات أهمية أكبر من ذلك، وهي تلك التي لا يَهُم فيها من هو التشيكي ومن هو الروسي، والتي تُرينا شخصا مسلحا وآخر مُجردا بلا سلاح، وإن كان الشخص غير المُسلّح -في الحقيقة- هو الأقوى".
وقد تواصل هذا المنهج الفني الإنساني لكوديلكا في كل سلسلاته ومعارضه وإبداعاته لاحقا، رغم ما يسبب له من ألم ومن خسارة للكثير من المال والعروض المغرية التي تقدم له كل يوم، لأنه ببساطة يمارس مهنة التصوير كهاو وعن حب وبشغف أبدي، "أصور ما أحب وأريد تصويره، لكن معظم ما ألتقطه مؤلم".
ولذلك فهو يواصل منهجه الصوفي الشعري الذي يشعره كمريد بضرورة التوحد والذوبان والتوهان مع "الصورة الإنسان"، يواصل ذلك حد التقشف في نِعَم الحياة البسيطة لكي لا يبدو متفوقا أو أرستقراطيا أمام الناس البسطاء الذين يصورهم، رافضا ذلك بقوة، "لن أقبل أبدًا التمتع بمستوى معيشة مصور رائع. من الضروري، في نظري أن أضع نفسي في مستوى الموضوعات التي أصورها، وأن أكون في مستواها، خاصة عندما يكونون في ظروف معيشية صعبة، لكي أكون متسقًا وصادقًا مع صوري. مثلا على سبيل المثال، سلسلتي حول الغجر الذين عشت معهم كليا، ومِثْلهم. أنا لست من أولئك الذين يمكنهم توثيق إبادة جماعية، وفي اليوم التالي ينفذ حملة إعلانية لعلامة تجارية للسجائر"!
يغرق كوديلكا في التشبث بالحرية والاستقلالية والإنسانية من أجل تحقيق حلمه الأبدي بعالم أقل عنفا وألما وحروبا وصراعات.
ومن أجل ذلك سافر إلى بيروت مع نهاية الحرب الأهلية سنة 1991، ووثّق بحساسيته المعهودة ما خلّفته الحرب الأهلية والدمار المعشش بين شوق البيانات والجدران.. الجدران التي نبتت لها أجنحة من خيال وولدت من جديد، بجسد فني جميل متكامل، استحسنه المتقبل لمعرض كوديلكا، رغم عاهات الحرب الأهلية والطائفية التي مزقته.
ولاحقا اختصر كوديلكا هذه الجدران في جدار واحد من خلال المعرض الذي يؤرخ بمجموعة من الصور لجدار الفصل العنصري للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين بين سنتي 2008 و2012.