"مول الكارة".. قصة زعيم المرابطين الذي انطلقت دعوته من الصحراء وقُتل على أبواب الرباط

"هذا ضريح الفقيه الصالح والعالم الناصح مولانا عبد الله بن ياسين الجزولي مهدي المرابطين لدولة لمتونة، توفي رحمه الله شهيدا في حرب برغواطة سنة إحدى وخمسين وأربعمئة هجرية، وكان شديد الورع في المطعم والمشرب".
بهذه العبارات المقتبسة من كتاب "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" والمكتوبة بخط مغربي على رخام أبيض، يستقبل ضريح عبد الله بن ياسين الزوار والراغبين في الترحم على زعيم روحي انطلق بدعوته الإصلاحية من الصحراء الكبرى، ليستشهد على أبواب الرباط.
مدفن منعزل
بمجرد أن يلمح قدوم زوار من بيته المقابل لضريح عبد الله بن ياسين، يسرع الحارس -الذي ورث مهمة رعاية المكان عن والده- الخطى ليفتح الباب ويقدم شروحا مقتضبة، قبل أن يعود أدراجه لإكمال مهامه تاركا الزائرين ليختلوا بالمكان.
يبعد ضريح عبد الله بن ياسين حوالي 50 كيلومترا عن العاصمة المغربية الرباط، وهو على ربوة تشرف على وادي كريفلة في مكان وعر ومنعزل يخلو من السكان باستثناء المشرف على المكان، وقد تم ربط الضريح بطريق معبد في السنوات الماضية لكنه تخرّب بمرور الزمن.
عندما دفن عبد الله بن ياسين في تلك الربوة بُني إلى جوار قبره مسجد يعد الأقدم في المنطقة التي تستوطنها قبائل زعير، وقد عرف الضريح والمسجد بعض الترميمات قبل منتصف القرن الـ20، ثم أعيد إصلاحهما في عام 1959، فتمّ توسيع المسجد وتبليط ساحته ووضع سياج حديدي يحيط بالبناءين.
بداية الرباط
يكتنف المراحل الأولى لحياة عبد الله بن ياسين الكثير من الغموض، ولا تسلط المصادر التاريخية المتوفرة الضوء سوى على دعوته وجهاده ضد القبائل في الصحراء والمغرب الأقصى.
وكانت البدايات الأولى لحركة ابن ياسين الإصلاحية عندما ابتعثه شيخه فقيه سوس وجاج بن زلو اللمطي إلى قبيلة صنهاجة، ليعلمهم فرائض الإسلام وأحكامه، استجابة لطلب أميرها يحيى بن إبراهيم الجدالي، بحسب ما يذكر كتاب "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى".
كان أهل المنطقة لا يعرفون من الإسلام غير الشهادتين، فلا يصلوّن ولا يزكون، وكانت العصبية القبلية مستشرية فيهم، فيظلم القوي الضعيف دون رادع من عرف أو دين أو أخلاق.

بدأ عبد الله بن ياسين الجزولي دعوة أهل صنهاجة لإقامة السنة وتطبيق الشريعة وترك ما هم عليه من البدع والمنكرات، إلا أنه لم يجد التجاوب المأمول، إذ جوبهت دعوته بمعارضة شديدة خاصة من الوجهاء والأمراء الذين رأوا في دعوة هذا الفقيه تهديدا لمصالحهم ومكانتهم الاجتماعية، فتآمروا عليه وآذوه.
قرر ابن ياسين اعتزال الناس، فهاجر رفقة 7 ممن آمنوا به، واستقر في جزيرة معزولة عند مصب نهر السنغال، وفيها بنى رباطا مع من تبعه، وتفرغوا للعبادة والتفقه في الدين. انتشر صيت هذا الرباط في الصحراء، فقدم إليه رجال من مختلف القبائل ممن يرغبون في تعلم القرآن والدين الصحيح، حتى صار عددهم يزيد على الألف رجل، ولم يعد الرباط يتسع لهم.
وبعد تزايد أعداد المؤمنين بدعوته، أعلن عبد الله بن ياسين الخروج للجهاد ضد من اعتبرهم ضالين وخارجين عن السنة، فأخضع قبائل الصحراء وتوجّه نحو الشمال.
رجل دعوة أم دولة
من رباط في جزيرة معزولة بدأت النواة الأولى لدعوة عبد الله بن ياسين، ووُضعت اللبنات الأساسية لدولة حكمت الغرب الإسلامي وامتدت من نهر السنغال جنوبا إلى الأندلس شمالا والجزائر شرقا.
سُمي عبد الله بن ياسين ورجاله بالمرابطين نسبة إلى الرباط الذي انطلقوا منه، وسموا أيضا بالملثمين بسبب اللثام الذي اشتهروا بوضعه على وجوههم في الصحراء الكبرى.
انطلقت هذه الدعوة الإصلاحية في بداية القرن الخامس الهجري، في وقت كان فيه المغرب منقسما إلى إمارات بعد انهيار دولة الأدارسة، أول دولة إسلامية بالمغرب.
يقول المؤرخ امحمد جبرون -للجزيرة نت- إن عبد الله بن ياسين كان رجل دعوة وإصلاح ديني وليس رجل دولة، إذ كان همه الأساسي وهاجسه إصلاح الأحوال الدينية والقضاء على المنكرات والتعصب القبلي والانحراف الديني.
فهذا الفقيه المدافع عن المذهب المالكي كان هو المرشد الروحي لحركة المرابطين التي تحولت بعد وفاته إلى دولة قوية يحسب لها حساب في عهد يوسف بن تاشفين.
مول الكارة
يطلق السكان المحليون على ضريح عبد الله بن ياسين اسم "مولاي عبد الله مول الكارة" أو "الغارة" (وتنطق مثل ما يعرف بالجيم المصرية)، وكلمة "مول" بالعامية المغربية تعني صاحب، أما الكارة فتعني الحلقة لكنها تستخدم للدلالة على مكان مبارك.
يوضح جبرون أن شخصية عبد الله بن ياسين ما زالت مرتبطة في الذاكرة الشعبية المغربية بكونه صاحب الغارات وبالجهاد، فرغم كونه الزعيم الروحي لحركة المرابطين، ظل يتصدر الصفوف الأولى للمجاهدين، ولا يحتاط لنفسه بل كان يمني نفسه بالشهادة، وهو ما تحقق له.
فقد استشهد ابن ياسين في معركة ضارية دارت رحاها في منطقة تامسنا بضواحي الرباط معقل إمارة برغواطة، وقد كان -بحسب جبرون- في طليعة المحاربين في هذه المعركة، وعلى درجة عالية من الإقدام والشجاعة والإيمان بمشروعه وأفكاره ودعوته.

ويقول جبرون إن البرغواطيين الذين أنهوا حياة مهدي المرابطين، هم أمازيغ مغاربة شكلوا إمارة في جوهرها إسلامية، لكن إسلامهم مختلط بكثير من التقاليد والموروث العقدي المحلي.
أما كتاب الاستقصا، فيعتبر أن برغواطة قبائل كثيرة وأخلاط شتى اجتمعوا في أول أمرهم على صالح بن طريف، وهو مدعي نبوة، شرع لقومه شرائع جديدة خارجة عن الإسلام.
لذلك يؤكد جبرون أن عبد الله بن ياسين عندما سمع عن ضلالهم وانحرافهم الديني رأى في جهادهم أولى الأولويات، فحاربهم في معارك قتل فيها الكثير من الرجال في الفريقين، وأصيب في إحداها بجرح بليغ أودى بحياته.
وصية الموت
وهو قريب من الموت، كانت آخر وصايا عبد الله بن ياسين -كما جاء في الاستقصا- لأصحابه "يا معشر المرابطين إني ميت من يومي لامحالة، وإنكم في بلاط عدوكم فإياكم أن تجبنوا أو تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وكونوا أعوانا على الحق وإخوانا في ذات الله، وإياكم والتحاسد على الرياسة فإن الله يؤتي ملكه من يشاء من خلقه، ويستخلف في أرضه من أراد من عباده".
وتقول بعض الروايات المتداولة شعبيا إنه عندما أصيب في المعركة، حُمل على بغلة وأَمر أتباعه بأن يدفنوه حيث توقفت، وهو ما كان.
وكما بدأت دعوة عبد الله بن ياسين الإصلاحية في رباط منعزل في جزيرة بعيدة عن الناس، انتهت حياته في مكان مشابه بعيد ومنعزل، بعدما مهد لبناء الدولة المرابطية التي وحدت المغرب الأقصى لأول مرة وحكمت حوالي 90 سنة قبل أن ينهيها الموحدون.