اللاعنف في النضال السياسي لعواطف الزراد
لا يمكن الحديث عن اللاعنف دون استحضار العنف عدوه الحميم؛ فاللاعنف أيديولوجية نشأت لتضع حدا لواقع العنف، وارتبطت بالماهاتما غاندي، وشكلت فلسفته في الحياة والنضال السياسي.
وتحولت بعد ذلك إلى فلسفة عامة للوجود، تتبناها فئة من الناس تعتبر اللاعنف قوة من شأنها كبح جماح العنف المستشري بين البشر، واتخذت هذه الفلسفة مرجعيات مختلفة؛ بعضها ديني ميتافيزيقي مستلهم من النصوص الدينية، وبعضها وضعي وفكري أيديولوجي مستلهم من مبادئ حقوق الإنسان وغيرها من المبادئ الإنسانية التي يروج لها إنسان الحداثة وما بعدها.
كتاب "اللاعنف في النضال السياسي" للباحثة التونسية عواطف الزراد، الصادر عن دار زينب، واحد من البحوث التي حاولت قلب مفهوم اللاعنف في الحقل السياسي، وأهدته إلى أرواح شهداء الوطن، وكل شهداء الإنسانية في سبيل الحرية.
وينقسم الكتاب إلى جزأين: الأول تحت عنوان "نجاعة اللاعنف كأسلوب بديل عن العنف في النضال السياسي"، وتناولت فيه الكاتبة بدائل اللاعنف كآليات فعالة في النضال السياسي ونجاعة النضال السياسي واللاعنف في الواقع، ووضعت الجزء الثاني تحت عنوان "عوائق اللاعنف في النضال السياسي"، وتناولت فيه العوائق النظرية في ظل الهيمنة الفكرية للعنف وواقعه في العلاقة بالقضايا العادلة وعوائق هذا اللاعنف على المستوى الواقعي في ظل واقع التسلح وتجارة السلاح والقانون الدولي وتراجع قوة المجالس الأممية ودورها في نشر ثقافة اللاعنف، لتتطرق في آخر بحثها لآفاق استخدام اللاعنف، والتخلي عنه في بعض التجارب النضالية ومصير اللاعنف في واقع الاحتفال بالقتل.
اللاعنف بديل
تنطلق الباحثة من الحديث عن العنف كخيار إستراتيجي اختارته الشعوب لمواجهة المستعمر واسترداد حقوقها المشروعة من المستبد، فالشعوب "عند المطالبة بحقوقها السياسية والمدنية والاجتماعية أو للتحرر من هيمنة المستعمر، كثيرا ما تلجأ إلى استعمال العنف في نضالاتها وفي كفاحها ضد الاضطهاد بأنواعه المختلفة".
وتسجل عواطف الزراد أن هذا الخيار الكلاسيكي الطبيعي في الدفاع عن النفس والحق، وهذا المبدأ الذي تم اعتناقه خلّف كثيرا مآسي بشرية تمثلت في المذابح الجماعية وشهداء بالملايين وثقها تاريخ النضال السياسي، ولكن هذا التاريخ أيضا لا ينكر تجارب استثنائية اختارت نهجا آخر غير العنف في مواجهة العنف، وهي تجربة اللاعنف، ذلك "الذي يراهن على تحقيق أهداف هي العدل والمساواة والسلم" من دون إراقة الدماء أو أقل وحشية وعنفا.
وتستشهد الباحثة بجان ماري مللر -وكتابه "الدخول إلى عصر اللاعنف"- الذي يعتبر العدل سليل السلام، لكن السلام يحتاج إلى صراع طويل عبر طرق إجرائية ليس بالضرورة العنف أساسها، لأن الصراع ليس هدفا في ذاته، بل بطرق سلمية أساسها التفاوض الذي ينتهي بعقد شراكة مع الآخر الخصم وليس عبر محوه وإلغائه وإبادته.
وتعطي الباحثة أمثلة لذلك في نضالات الشعب الهندي ضد المستعمر البريطاني، ودور اللاعنف مع المهاتما غاندي في الوصول إلى أهدافه والاستقلال، كل ذلك عبر اللاعنف أو ما يعرف بـ"الساتياغراها"، كما تستشهد بنضالات السود ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة، عبر القس مارتن لوثر كينغ، ونضالات سود جنوب أفريقيا عبر القائد نيلسون مانديلا.
وتحاول الباحثة تجذير خيار اللاعنف في المجال السياسي بالرجوع به إلى قديم الأزمنة، حيث بشّرت به الفلسفات والديانات في مقابل فلسفة العنف وتجذيره مع توماس هوبز أو مكافيلي، وربطه بالطبيعة البشرية التي تنزع فطريا نحو العنف. وحاولت تلك الفلسفات قلب مفهوم الإنسان باعتباره كائنا شريرا بطبعه، إلى مفهوم الكائن الطيب بطبعه الذي ينزع إلى السلام والسلوك اللاعنفي، الذي "يدفعه إلى العدالة والفضيلة وينهاه عن الظلم والعنف والرذيلة"، وتبنت هذه النظرة نظريات العقد الاجتماعي.
تقدم الباحثة أمثلة لبدائل اللاعنف في النضال السياسي عبر الفعل الرمزي المتمثل في الاعتصامات والمسيرات والإضرابات، وتقول إن هذه الأساليب اللاعنفية كان أحصاها الباحث في اللاعنف جين شارب في أكثر من 200 أسلوب، وصنفها إلى 3 مجموعات، هي: الاحتجاج والإقناع باستخدام اللاعنف والتدخل باستعمال اللاعنف. ففي الأولى تكون التصريحات والعرائض والخطابات العامة والرسائل المعارضة والبيانات التي تصدر من منظمات مؤثرة، واستخدام وسائل الإعلام للوصول إلى الجماهير العريضة والمجازفات.
وتعطي الباحثة مثالا بـ"برمنغهايم ألاباما"، وكيف تآزرت مجموعة من الأفراد للقيام بمجازفات حينما ظلوا يغنون الأناشيد وهم راكعون رغم مهاجمة الشرطة لهم بالهراوات والكلاب، وهو ما وضع الشرطة في حرج أمام الرأي العام عندما عُرضت المشاهد، ونقلها الإعلام، وأثبتوا للملايين "عدالة" قضية المحتجين السلميين وعنف السلطة وظلمها.
كما تعطي الباحثة مثالا آخر من الربيع العربي، ونزول التونسيين إلى شارع الحبيب بورقيبة لإسقاط النظام عبر الهتاف الشهير أمام وزارة الداخلية، ودشنت تونس وقتها نموذجا للنضال السياسي عبر اللاعنف حينما سقط النظام.
وقد تنوع هذا النوع من الاحتجاج، حتى رأينا أمثلة طريفة كالمسيرات البحرية، أو ما تسمى "الخرجة البحرية" الاحتجاجية المنظمة، حين خرج بحارة من منطقة جرجيس بالجنوب التونسي بعدد من المراكب تجوب السواحل احتجاجا على مطالبهم، التي لم تلبها الحكومة، أو احتجاجا على وجود المجمع الكيميائي بالمنطقة وآثاره السلبية.
ومن الأسلوب اللاعنفي الرمزي توظيف الفنون "كعرض اللوحات الفنية المعبّرة عن مضامين سياسية، أو توظيف الموسيقى" إلى جانب المسرح وما يسميه جان ماري موللر "المسرح المنشور"، وهو "عبارة عن تمثيل مشهد قصير جدا من 3 إلى 4 دقائق في الشارع، ومن شأنه إبلاغ المارة رسالة موجزة وبسيطة وواضحة في منشور متقن النص، ويجري المشهد وفقا لتصاعد درامي ينتهي عند ذروة تستطيع أن تحدث صدمة انفعالية لدى من يشاهدون ويستمعون"؛ وهو ما يفتح الحوار مع المارة لمناقشة قضية المحتجين، فيكون المشهد المسرحي محفزا للنقاش وتحشيد الجماهير.
وتستمر الباحثة في تقليب أشكال النضال السياسي عبر اللاعنف حتى تصل إلى ما يسمى العصيان المدني والإضراب العام، وهذا أعلى درجات الاحتجاج التي يكون لها أثر كبير على الاقتصاد، مما يعجل بالتفاوض أو سقوط تلك الحكومات.
عوائق اللاعنف
تعتبر الكاتبة أن الجنوح نحو العنف أسرع من الجنوح نحو أساليب اللاعنف، ويرجع ذلك إلى غياب مؤرخين للاعنف؛ فقد ظل النضال اللاعنيف مهمشا، وأضحى النضال العنيف الشكل الطبيعي للنضال الناجع، فحتى "المؤرخين المتخصّصين في تأريخ الحركات التحررية يهتمون كثيرا بتلك النضالات التي توخت طريق العنف مقابل إهمال غيرها التي استخدمت في نضالها أساليب لاعنفية".
وترى الزراد أن هذا المناخ الفكري المتمثل في تبجيل وتمجيد النضال العنيف يعيق الأساليب اللاعنفية، ويحد من اللجوء إليها، وتعتبر أن غياب قاموس شامل لمصطلحات اللاعنف من شأنه أن يجعل هذا الأسلوب في النضال ينحسر، فباستثناء قاموس جان ماري مولر لا نكاد نعثر على قاموس يروج لخطاب اللاعنف ويجمع مفرداته.
وهذا من شأنه أن يغرق اللاعنف أكثر في سوء الفهم والإبهام. وقد جاء قاموس اللاعنف لماري مللر، الذي قضى 35 عاما في تأليفه، تلبية لهذه الحاجة الملحة لقاموس شامل لثقافة اللاعنف، التي لا يمكن أن تحضر كواقعة وظاهرة قوية في غياب لغتها وقوتها التي لا يمكن أن تحقق حضورها إلا عبر تنوع القواميس وتحيينها.
وتعتبر الباحثة أن مبررات تهميش المؤرخين للاعنف هو فشله في مناسبات كثيرة، فاعتبروا أنه نضال فاشل، مع أن "فشل اللاعنف ونسبيته -كما تقول الباحثة- لا يقابلهما نجاح مضمون يحققه العنف في كل الحالات". وتضييق التاريخ على اللاعنف من خلال تهميشه يتنزل في لا حيادية التاريخ وتورطه في الأيديولوجيا والسياسة، رغم رفعه شعار "الموضوعية العلمية والحياد وعدم الانحياز".
إن الورطة التي يعيشها اللاعنف هي علاقته بالقضايا العادلة، والتي تعطي مشروعية للمرور إلى النضال العنيف تحت لافتة الحق والدفاع عن الحق. وترى الباحثة أن الثقافات على اختلافها تملك احتياطيا كبيرا من العنف، مما يدفعها إلى المسارعة باستخدامه وتبرير استخدامه، وهذا هو الأخطر لأنها تستند في ذلك إلى كل شيء: الأيديولوجي والحقوقي والسياسي. فـ"ذهنية العنف" هي التي تهيمن على البشرية لأنها محكومة بمبدأ الغائية، والبحث عن الغايات يحتاج أساليب ووسائل، والعنف أكثر الوسائل توفرا.
وتعتقد الباحثة أن الجنوح إلى العنف يفقد الغاية العادلة قيمتها، لأنه ينتج أزمات جديدة وصراعات جديدة من شأنها أن تحوّل الحياة البشرية إلى حياة ثأرية.
المواجهة السلمية
إن اللاعنف -حسب الباحثة- في مواجهة واقع عنيف متمثل في واقع التسلح الذي لا يمكن أن يستمر في إنتاج معناه إلا من خلال إنتاج العنف الذي ينشّط أسواق الأسلحة ومصانعها. فـ"الازدهار الذي تعرفه تجارة الأسلحة يتعارض مع ضروب الحسم السلمي للصراعات التي تدعو إليها التوجهات المتبنية للاعنف في النضال السياسي".
يقول جون ماري مللر "إن حكامنا لا يملكون من المال للإنفاق على تعليق الشعب وتثقيفه لأنهم حوّلوا مواردهم المالية في الاستعداد للحرب القادمة". هذه الحقيقة المحزنة للكثير من بلدان العالم التي ترثي الإنسان المسالم، الإنسان اللاعنيف؛ فامتلاك الأسلحة لم يعد حكرا على البلدان الغنية، بل أصبحت البلدان الفقيرة تتسلّح وتخصص ميزانيات ضخمة للسلاح.
وتسجل الباحثة أن هذه الدول المتهافتة على تكديس الأسلحة هي الأنظمة الدكتاتورية ذاتها، وتعطي مثالا بدول أفريقيا.
وترى الباحثة أنه رغم ما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة من دعوة إلى النضال اللاعنيف والجنوح نحو اللاعنف في النزاعات الدولية والتفاوض من أجل حلول سلمية، فإن الواقع يتحرك وفق أساليب لا سلمية، لكن حتى مجلس الأمن في ذاته يتحرك بقوى أممية تجيز استخدام العنف تحت شعارات "الحرب من أجل إحلال السلم"؛ فقد "قرر مجلس الأمن للأمم المتحدة التدخل العسكري في مناسبات عديدة، مستندا في ذلك إلى منطوق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فأعطى الإذن بالتدخل في تاهيتي والعراق والصومال وأفغانستان…
وتستدرك الباحثة في مقاربتها للاعنف بأن تشير إلى خطورة اللاعنف المطلق، كلاعنف غاية في ذاته، وبشكل مبالغ فيه، وتستشهد بعبارة ول ديورانت "فحتى الديمقراطية تدمر نفسها بالإفراط في الديمقراطية". وهو ما يؤكده جين شارب "من الجهل الاعتقاد أن المفاوضات والحوار هما الرد المناسب لحل النزاعات التي تكون فيها القضايا الأساسية مهددة بالخطر، حيث لا يتخلى الخصوم عن أهدافهم دون قتال".
فاللاعنف المطلق يتماهى عند البعض مع الجبن والموت، وسبق أن رفضه المهاتما غاندي المنسوب إليه فلسفة اللاعنف نفسها، فرد على بعض الهنود الذين هربوا من هجوم رجال الشرطة عليهم وتركوا ديارهم وقالوا له إنهم ينفذون تعاليمه؛ قائلا "أردت رؤيتهم يقفون كالترس بين الأعظم قوة وبين الأكثر ضعفا… والحق أنه من الشجاعة أن يدافع الناس عن مقتنياتهم بحد السيف، ويصونوا كرامتهم ودينهم".
وأرفقت الباحثة الكتاب بملاحق، منها رسالة غاندي إلى هتلر، ورسالة نليسون مانديلا إلى ثوار تونس ومصر سنة 2011، ورسالة فرويد إلى أنشتاين: لماذا الحرب؟ ورسالة مارتن لوثر كينغ من سجنه ببرمنغهام سنة 1963، ورسالة تولستوي إلى غاندي، ومشروع السلم الدائم لإيمانويل كانط، وصور لأوراق مالية كتب عليها أصحابها بالقلم عبارات معارضة للسلطة الحاكمة وميثاق هيئة الأمم المتحدة (الفصلان 6 و7).
كتاب اللاعنف بحث مهم في واقع اللاعنف وتاريخه كمقولة ممكنة رغم ما يتهددها من ضعف في واقع العنف وصناعة العنف. لكن وجودها في الواقع وضرورة دعمها من شأنه أن يلطف هذا الواقع، ويقلل وحشتيه؛ فمهما كانت النتائج فإن "اليوتوبيات الصغيرة" من شأنها أن تحد من تحوّل العالم إلى "ديستوبيا شاملة".