"حكي القرايا" من الافتراض للواقع.. هكذا يخلد الفلسطينيون تراثهم

عاطف دغلس-نابلس
"بكرية عبد الرحمن العبد الله"، هكذا يُلفظ اسمها بلهجة الفلاحين الفلسطينيين، وهكذا نودي عليها من بين الحضور خلال حفل تكريم أقيم قبل أيام دعيت له وآخرون من أهالي قريتها دير بلوط قضاء سلفيت شمال الضفة الغربية.
بعد نصف قرن أو يزيد من التعب والشقاء في فلاحة الأرض، جاء من يقول للحاجة بكرية (أم عزيز) شكرا، ويمنحها شهادة تقدير زادت من احترامها لنفسها وأعلت شأن عملها بين قريناتها كامرأة تمتهن حراثة الأرض عبر دابتها، وهو عمل قامت عليه أكثر بعد وفاة زوجها عام 1989.
غير أن هذا التكريم، تقول ابنتها الكبرى عزيزة، وقع في محله وغمرها سعادة لم تعرفها من قبل، وتضيف "انتشت والدتي ودبَّ فيها النشاط" وواصلت بحيوية أكثر عملها الذي لم تنقطع عنه يوما رغم حالتها الصحية الصعبة وكبر سنها.

نقلة للواقع
ومن مجرد مجموعة صغيرة على فيسبوك، انطلقت "حكي القرايا" قبل خمس سنوات بهدف جمع المفردات العامية (الفلاحية) والأمثال الشعبية، لكنها سرعان ما تطورت لتنشط في إحياء التراث الفلسطيني من أمثال ومفردات ومواسم زراعية وأزياء وأكلات شعبية فلسطينية وأغان وأهازيج وفلكلور ومعتقدات شعبية.
بجولة تصفح واحدة داخل "حكي القرايا"، يلحظ المتابع أن القرية الافتراضية توسعت وتداولت حكاياها بكثافة وضربت جذرا بالأرض شد إليه نحو مئة ألف عضو يجمعهم حب الماضي والحنين له، وينتشرون بكل التجمعات الفلسطينية في الداخل والخارج في أكثر من مئة دولة.
وخارج المجموعة، بدا التفاعل مع الماضي أكثر، مما نقل "حكي القرايا"، كما يقول فريد طعم الله أحد المؤسسين، من العالم الافتراضي إلى الواقع، وأقيمت الأنشطة المتنوعة بين زيارات جماعية لأماكن سياحية وأثرية هدفت لتعزيز اللقاء والتعرف على العادات والتقاليد.
ونظمت مهرجانات لتحصين الثقافة والتراث الفلسطيني والدعوة لحمايته بإقامة معارض لأدوات المختلفة لا سيما الزي التقليدي، إضافة لإحياء الذاكرة بالفلكلور والأهازيج والأمثال الشعبية، وعكست "حكي القرايا" شقها الإنساني بفعل الخير وتقديم مساعدات عينية ومادية.
في سردية المثل الشعبي الفلسطيني "حكي القرايا غير حكي السرايا"، تجتمع معاني "الجروب" ورسالته العفوية ليكون له من اسمه نصيب، فـ"حكي القرايا" انحياز تام للرواية الشعبية البسيطة بمقابل "حكي السرايا" (الطبقة العليا) الذي يعبر عن وجهة النظر الأخرى "الفوقية".

هياكل نشطة ومنظمة
ويقول طعم الله: إن "حكي القرايا" لها هيكلية منظمة تتوزع بين صلاحيات إدارية، فيها من يتخذ القرار ومن ينفذه، وترتكز على روح العمل الجماعي، وبها مجلس أمناء يضم "قامات عالية" من المختصين بمجال الفن الشعبي والتراث يناط بهم وضع الرؤية والخطط طويلة المدى للمجموعة.
وتتفرع المنظومة أيضا لمجلس إدارة يُنفذ الخطط، وهيئة تنسيقية ميدانية بكل محافظة في الوطن تعمل ميدانيا وتمثل "حكي القرايا" في المهرجانات والأنشطة المختلفة.
وتتولى مجموعات أخرى متابعة عشرات المنشورات اليومية عبر فيسبوك بما يتعلق بقضايا التراث والعادات والتقاليد والمصطلحات بمعانيها القديمة وما يتشابه معها الآن، فهناك زوايا ثابتة كمطبخ حكي القرايا، واعرف بلدك، والمواسم الزراعية، وتقنيات الزراعة الشعبية، والترويج للمنتجين من صغار المزارعين وربات البيوت والصناعات البيتية.
وكل ذلك يقول طعم الله ليس هدفه البكاء على الماضي واجتراره، وإنما استحضاره وإحياؤه بالممارسة عبر وسائل الاتصال الحديثة "للحفاظ على هويتنا الفلسطينية الجمعية من الضياع بفعل الاحتلال، فهي أحد أشكال المقاومة الشعبية والثقافية".
وفي ثنايا صفحة "حكي القرايا" لا يمل أحدٌ من مشاهدة صور لمقتنيات تراثية ومبان قديمة، أو التعرف إلى مصطلحات يُضيفها الأعضاء ويحاولون عبرها إنعاش ذاكرة الفلسطينيين بكل جديد وجميل، فالمجموعة تستقبل شهريا 1500 عضوا جديدا.

بعث للتراث
وهذه ، برأي عضوة مجلس أمناء "حكي القرايا" والباحثة في التراث الفلسطيني سمية قشوع، محاولة بعث للتراث بأنواعه المتوزعة من الألفاظ شبه المندثرة والأغاني والأهازيج الشعبية حتى الأدوات المستخدمة قديما في البيت والأرض وغيرهما.
ويتداول الأعضاء قصصا بلهجتها العامية القديمة، إضافة لمواضيع اجتماعية تثار للنقاش وأخرى تعالج الموروث الثقافي، وكل ذلك بغية "تحقيق التواصل".
وتقول قشوع إنها وجدت ضالتها في "حكي القرايا" بعد أن كانت تبحث عن كل ما يربطها بفلسطين ويُعزّز هويتها الوطنية.
وتضيف أنها اكتسبت الكثير من العادات بعد تعرفها على عائلات من قرى أخرى بمنطقة سكناها بالداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وأصبحت تشاركهم فعالياتهم ومناسباتهم، "وهذا سهَّل انتقال حكي القرايا من عالم الافتراض للواقع".
كثير من الأعمال والمشاريع تدق باب "حكي القرايا"، وأهله يعكفون على فتحه قريبا على مصراعيه بمهرجانات موسمية زراعية وتراثية وأخرى تعريفية تندرج تحت لقاء جماهيري واسع في سبتمبر/أيلول القادم.
