عالم الإمبراطوريات.. الفن والهوية في الشرق الأوسط القديم

عادة ما نميل للنظر إلى جغرافيا العالم القديم على أنها مناطق مقسّمة بين إمبراطوريات عظمى. لكن في الواقع، ازدهرت الدول والمدن الفريدة من نوعها، وحتى الحضارات الصغيرة، في المناطق الحدودية حيث تلتقي هذه القوى العظمى.
وقال الكاتب مليك كيلان في تقريره الذي نشرته "وول ستريت جورنال" إن المعرض المقام حاليا في متحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك، يحتفل بالأمجاد المعقدة والقصص المؤثرة التي ترتبط بمثل هذه الأماكن الواقعة على طول الحدود المشتركة بين روما وبارثيا الإيرانية.
ويضم هذا المعرض الذي يحمل عنوان "العالم بين الإمبراطوريات: الفن والهوية في الشرق الأوسط القديم"، قرابة 190 قطعة مدهشة يعود تاريخها إلى 100 سنة قبل الميلاد و250 سنة قبل الميلاد، والمُقسّمة على 20 متحفًا حول العالم.
علاوة على ذلك، يركّز المعرض على المنطقة الممتدة بين اليمن وسوريا والعراق حاليا، التي تغطي طرق التجارة القديمة التي حملت اللبان والمر إلى الشمال، ومن ثمّ إلى العالم الأوسع وحتى الصين. وخلال هذه المسيرة، زادت قوافل الجِمال مدنَ الواحات المحورية ثراءً، على غرار البتراء في الأردن، وتَدمُر ودورا أوروبوس في سوريا، ومملكة الحضر وبلاد الرافدين في العراق.
مناطق مهمة
وأوضح الكاتب أن الثروة التجارية جعلت هذه المناطق مهمة ومرغوبة من الناحية الإستراتيجية، ولكن عرضة للصراع في معظم الأحيان. في المقابل، استسلمت بعض المواقع عديد المرات لمصيرها المأساوي على نحو متقطع. ومن هذا المنطلق، خصص المعرض أقسامًا لوصف هذه المواقع، على غرار تَدمُر والمواقع العراقية التي هاجمها تنظيم الدولة.
ويحرص القَيّمان على متحف الميتروبوليتان للفنون بلير فولكس تشايلدز ومايكل سيمور على عرض هذه القطع الأثرية في شكل لوحات جدارية، من أجل إبرازها في أفضل حلّة.
فضلا عن ذلك، يحتوي المعرض على مقطع فيديو مدّته 12 دقيقة، يناقش من خلاله ثلاثة خبراء في مواقع هذه المنطقة، حجم الدمار الذي شهدته خلال السنوات الأخيرة. وأضاف أحد القيّمين أن محو التاريخ يعدّ بمثابة تهجّم على الذاكرة والهوية، بل إنه في الواقع "شكل من أشكال الإبادة الجماعية".
وأورد الكاتب أن المعرض خصّص غرفة تروي تاريخ التمرّد الذي قاده "بار كوخبا" الذي قضت عليه الجيوش الرومانية بكلّ وحشية. وتُذكّرنا الأدوات والمرايا والإبر المنزليّة التي وجدت داخل أحد الكهوف التي اختبأ فيها اللاجئون اليهود؛ بتاريخ الإبادات الجماعية ماضيا وحاضرا.
وتتنوّع مواضيع المعرض الأساسية بين "الازدهار" "والتعددية "والتعايش" المقسّمة على 11 قسما تحت عناوين "جنوب غرب شبه الجزيرة العربية" "والأنباط" "ويهودا" "وتدمر" "وبلاد الرافدين".
تماثيل
وفي مدخل المعرض، يوجد تمثال صغير لإلهة عارية من المرمر تلبس مجوهرات ذهبية وعيناها وسرتها من الياقوت الأحمر. ومن المرجح أن يكون هذا التمثال إما من حضارة الرومان أو بلاد الرافدين أو الاثنين معا، كما أن الياقوت الذي يعود إلى منطقة ميانمار يجعل من هذا التمثال نتاجا لتأثيرات التبادل التجاري.
كما يوجد تمثال جنائزي لامرأة مصنوع من حجر الجير ويعود لحضارة تَدمُر، وهي امرأة تلبس ثوبا من الحضارة الرومانية اليونانية، وتبدو على وجهها ملامح محلية.
وأضاف الكاتب أن المعرض يحتوي على مبخرة من جنوب شبه الجزيرة العربية نُحتت عليها صورة رجل يركب جملا ويحمل مبخرة تحتوي على اللبان ونبات المر. وتُجسّد هذه المنحوتة ثراء المنطقة ماديا وجغرافيا.
ويتضمّن القسم الأول الذي يحمل عنوان "الشرق الأوسط بين روما وبارثيا"، جملة متنوعة من القطع الأثرية الساحرة التي جسّدت المواضيع العامة للمعرض. فمثلا، أبرزت السفن المزخرفة والأواني الزجاجية الملوّنة مستوى من الفخامة يماثل تلك الموجودة في الإمبراطورية.
كما تكشف قطع القماش المصبوغة أنماط وتقنيات النسيج المتأتية في الأصل من طريق الحرير. بالإضافة إلى ذلك، عُرضت 18 قطعة نقدية تروي المسابقات التي جمعت بين الأباطرة الرومان والبارثيين، الذين تداولوا على الحكم. كما يُظهر درع جندي ضخم بحجم إنسان؛ الجمالَ الذي كان مفروضا باستخدام القوة.
وقد عُرض في قسم "جنوب غرب شبه الجزيرة العربية" أشكال تكعيبية مجردة تمخّضت عن الظروف المناخية الصحراوية القاسية في تلك المنطقة، حيث جسّدت حب الحداثيين الأوائل للعناصر الأساسية والنقية. إلى جانب ذلك، عُرضت تماثيل برونزية واقعية وأخرى مزخرفة تكشف التأثير الواضح بين روما وبارثيا، وترتبط بجماليات عصر ما قبل الحداثة الغربية.
علاوة على ذلك، هناك لوحة تذكارية من "تمنة" تحمل سمات مميزة على غرار العيون البيضاوية والأنف المستطيل والفم الصغير. ومن المرجّح أن تكون هذه اللوحة مصدر إلهام لكل من بيكاسو وبرانكوشي. أما في قسم "الأنباط"، فتُعرض لوحة تذكارية من معبد في البتراء لإلهة بشفتين ممتلئتين وحاجبين كثيفين.
الجدير بالذكر أنه تم العثور على هذه الوجوه المبسطة على تماثيل موجودة داخل المنازل التي تعبّر واجهاتها الخارجية عن الآلهة التي كانت في العصر الهلنستي. لكن، لسائل أن يسأل: لماذا توضع الآلهة العامة في الخارج بينما تُخبأ الآلهة الحقيقية في الداخل؟ هل يعتبر ذلك نفاقا أم خداعا؟
وأفاد الكاتب بأن الأديان امتزجت بحرية وتسامح على اختلافها لتزيد من ثراء المنطقة. وكانت "دورا أوروبوس" التي تشتهر بكنيستها المنزلية حيث كان المسيحيون يمارسون طقوسهم الدينية عندما كانت الكنائس محظورة في ذلك الوقت، ناهيك عن الكنيس اليهودي، والمعابد المتعددة الأديان، تجسيدا واضحا لهذا الثراء الديني.
في الختام، قال الكاتب إن العديد من هذه الكنوز الأثرية القيّمة نُقلت إلى المتاحف في سوريا والدول الغربية منذ سنوات بسبب عمليات النهب، ويعود الفضل لهذا المعرض في تقديمه التحف المنزلية النادرة، والروايات الجدارية والأسقف الملونة، التي تروي قصة الحضارات القديمة للمنطقة.