"العين القديمة" للأشعري.. رواية لجيل الأحلام المكسورة بالمغرب

نزار الفراوي-الرباط
يقترح الكاتب المغربي محمد الأشعري في روايته الجديدة "العين القديمة" رحلة حافلة بالمطبات في عوالم ذات نكست أحلامها، مثخنة بالأعطاب والاضطرابات، تغدو مجرد انعكاس لأعطاب واختلالات أوسع على واجهة المجتمع والسياسة.
عن منشورات المتوسط بإيطاليا، صدرت الرواية (255 صفحة) التي تكرس انحياز الأشعري مؤخرا لفتنة السرد بعد مسيرة أولى برز خلالها كواحد من أبرز الأصوات الشعرية بالمغرب. يرسم الكاتب معالم ذات تحمل اسم "مسعود" الذي لا يطابق مسماه، الرجل الستيني الذي يتأمل حياته كحلقات متعاقبة من الأوهام والأحلام المكسورة.
وسواء بعين "مسعود" أو من تأمل خارجي في ذاته وفي علاقته مع محيطه الاجتماعي والسياسي والعائلي، تغدو الرواية ديوان الزمن السياسي الراهن بامتياز، تضع الأصبع على مكامن العلل التي تجعل من الحاضر حالة مرضية غارقة في وحل الازدواجية بين شعارات الإصلاح والحداثة والكوابح المشدودة إلى التقليد والفساد وإعادة إنتاج التخلف.
انكسار الفرد وعطب المجتمع
ينسج الأشعري إذن جدلية العلاقة بين السكيزوفرينيا الفردية والجماعية التي تفرز في مظهريها حالة انفصال عن الواقع، وضبابية في الرؤية وتوترا مع الماضي وعجزا عن التصالح مع المستقبل. حيلة الأشعري في ذلك تحريك شخصية "مسعود" على درب حياة واقعية وأخرى متخيلة تفرز شخصية مضاعفة له، ندا ونقيضا، يسميها في النص "الآخر"، الذي يصبح مرآة مشوهة لمسعود، يحاورها ويناكفها، ويحاول كسرها أحيانا.

إنه مسعود القادم من قرية صغيرة، بندوب قهر لم تندمل من طفولة تعيسة، إلى الدار البيضاء، المدينة الغول، مهب رياح العصرنة والتحديث، انتقالا إلى فرنسا حيث يعايش ثورة الطلاب لعام 1968 بأحلامها وأوهامها، ثم عودة إلى البلاد من أجل "محاولة عيش" لا تلبث أن تصطدم باختلالات نفسية في ترتيب العلاقة مع الذاكرة والواقع والناس ومصير بلد يواجه عطبا بنيويا.
رغبات في الانتقام لطفولة مغتصبة، شعور بالعجز أمام فساد عام، غواية متجددة بارتكاب جريمة قتل.. قتل من، وماذا؟ التباس الحدود بين الذاكرة والرغبات المكبوتة التي يحاول استدراكها في خريف العمر، هكذا تتأرجح يوميات "مسعود" الذي يبحث عبثا عن أرض صلبة يقف عليها، ملفوفا في حالة فقدان للتوازن، خطرة وأمارة بالإقدام على أشياء غير متوقعة.
يحكي النص إذن انكسار ذات فردية، ومن خلالها حالة عطب جماعي. هذا الاختيار السردي طبيعي في نظر الكاتب لأنه في أحيان كثيرة تكون الأعطاب الفردية عنوانا لأمر أوسع نطاقا، يحدث جزء منه داخل الفرد، لكنه يمتد أبعد في العلاقات الاجتماعية وفي التاريخ الذي نحمله معنا.
غير أن الأشعري يود أن يهون من الحالة السوداوية التي قد تستقر في ذهن القارئ. صحيح أن شخصيات الرواية تواجه لحظات صعبة من مساراتها، لكنها تظل لحظات منتجة للحياة والفرح والاستمرار. ما نعانيه لا يمنعنا من قضاء حياة طيبة. إرادة الحياة تنتصر بما تفتح من هوامش للجمال والحب ضد المثبطات.
يرفض وصف "العين القديمة" بأنها مرثية لمرحلة أو تأبين لزمن. هو بالأحرى، يحاول لفت الانتباه إلى أن هناك عطبا مكرورا يقضي بأننا نقف في منتصف الأشياء، سواء تعلق الأمر بالديمقراطية أو الحداثة. "نظل نراوح مخاضات انتقال لا تفضي إلى الوجهة التي نقصدها. لا نجازف بالقطيعة مع الماضي، ولا نغامر بالقفز إلى المستقبل، بل نسعى دائما إلى تلك التوليفة المستحيلة". بالنسبة إليه "الوقوف في منتصف الطريق يعذب.. إننا نمشي برؤوس مقلوبة إلى الوراء".
الرواية كموقف سياسي
روايات الأشعري تحمل نبض زمنها السياسي والاجتماعي دون تنازل عن جماليات السرد ومقومات المعمار الروائي. و"العين القديمة" لا تخرج عن هذا الإطار، بل تزيد عليه من حيث جرعة اللهجة النقدية تجاه الواقع السياسي والمجتمعي (المغربي الذي ينحسب على أوضاع بلدان عربية كثيرة).
والكاتب من جانبه لا يجد غضاضة في ذلك، بل يمضي أبعد للقول إن الرواية ضرب من العمل السياسي، لأنها تقف عند لحظات من التاريخ والتحول تسائل ما وقع. هي عمل نقدي وتحليلي، وبالتالي فهي من صميم السياسة التي ترسم صيغة للمستقبل. إن الروايات الأكثر تخييلا لا تحيد عن هذه الدائرة.
ولعل الأشعري، القيادي الحزبي ووزير الثقافة سابقا، يوضح انشغاله أكثر في الآونة الأخيرة بالكتابة الروائية التي تسمح بعمل مباشر أكثر مما يتيحه الشعر الذي يبقى ممارسة أكثر فردية وحميمية. الرواية مجال للتأمل والتحليل والاهتمام بالتفاصيل، وهي تسمح بتطويع الكتابة لفهم أعمق لتفاصيل المجتمع والحياة اليومية.
ظلال الشعر في رواية الشاعر
في المقابل، لا يمكن للقارئ أن يخطئ موعده مع ظلال الشعر في لغة "العين القديمة" التي تظل زاخرة بمقاطع تحمل نبض القصيدة وموسيقاها وشفافيتها خصوصا حين يتعلق الأمر بحوارات داخلية ذات عمق تأملي ووجداني.
هنا، يذكر الأشعري بأن الإنجاز الإبداعي في الكتابة له علاقة قوية ومباشرة باللغة. فالاشتغال "الشعري" على اللغة مسألة حيوية، وهدف المبدع هو تطوير اللغة التي يتقاسمها مع الجميع في اتجاه لغة جديدة، أو تبدو كذلك.
الكاتب الذي يؤسس مكانا متميزا هو الذي يستطيع أن ينحت من اللغة المشتركة لغة خاصة. لذلك يقول صاحب "القوس والفراشة" (البوكر العربية)، "أحاول أن أفعل ذلك اعتمادا على تجربتي الشعرية. إن لغتي الشعرية ليست موازية للكتابة السردية بل هي مندمجة فيها، فأنا لا أدخل الرواية فقط من مدخل البناء، ورسم الشخصيات، وتخييل الفضاء وغيرها، بل أيضا من بوابة الشعر. وفي المقابل، كثيرا ما أستخدم السرد كمختبر شعري للتأمل من داخل القصيدة".
لكن الأشعري يستبعد فكرة الارتحال من الشعر إلى الرواية، الأجناس الأدبية ليست قارات منفصلة، بل مجالات إبداعية متبادلة التأثير، وإن كان الأشعري لا يتردد في القول إن الشعر في راهن الساحة الأدبية العربية يعاني "حيفا"، رغم أنه جوهر الأشياء في الأدب والحياة.