البردة والبديعيات والمَوْلديات.. قصائد المدائح النبوية في عيون الأدب العربي

عرف الأدب العربي أشكالا مختلفة من المدائح النبوية، أبرزها البردة التي قيل إنها أشهر قصيدة مدح في الشعر العربي، وانتشرت انتشارا واسعا وترجمت إلى العديد من اللغات مثل الفارسية والتركية والإنجليزية والفرنسية، لكن بقي أصلها العربي -بموسيقاه وتصاويره وألفاظه ومعانيه- مميزا بين درر الشعر العربي.
وفضلا عن البردة النبوية، عرف الشعر العربي كذلك فن "البديعيات" الخاص بالمدائح النبوية، وهي قصائد منتظمة على بحر البسيط بدأت في العصر المملوكي، واشتهر حديثا شعر "المَوْلِدِيّات" الخاص بذكرى المولد النبوي الشريف التي تحل في 12 ربيع الأول من كل عام هجري.
بردة كعب بن زهير
بدأ تقليد قصائد البردة مع الشاعر المخضرم كعب بن زهير بن أبي سُلمى الذي قيل إنه ألقى القصيدة بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام طالبا العفو، فأعجب النبي بقوله وعفا عنه وكساه بُردته الشريفة التي خلعها عليه فسميت القصيدة على اسمها.
ودخل كعب الإسلام بعدما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه لإيذائه المسلمين بشعره، وتعرضه لنسائهم، وهجائه النبي عليه السلام.
وتبدأ قصيدة كعب بن زهير بالغزل على عادة الشعراء العرب في ذلك الوقت، ويفتتحها قائلا:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ .. متيّمٌ إثْرَها لم يُفدَ مكبولُ
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا .. إلا أغنُّ غضيضُ الطرف مكحولُ
لكن القصة لا تنتهِ عند هذا الحد، فقد أصبحت "البردة" تقليدا شعريا للشعراء الذين ينظمون المدائح النبوية، وعارضها شعراء كثر على القافية نفسها، واقتبسوا من ألحانها وأوزانها وصورها الفنية وبلاغتها الجمالية.
يقول فيها ابن زهير:
يسعى الوشاة بجنبيها وقولُهم .. إنك يا ابن أبي سلمى لمقتولُ
وقال كل خليل كنت آمله .. لا ألفينّك إني عنك مشغولُ
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم .. فكل ما قدّر الرحمن مفعولُ
وينتقل كعب في قصيدته من التغزّل بسعاد، إلى الندم والاعتذار، ثم شعر الحكمة والرضا بالقدر، حتى يمدح النبي بفصاحة وجزالة شعرية راجيا العفو عما بدر منه:
أُنبئتُ أن رسول الله أوعدني .. والعفو عند رسول الله مأمولُ
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيلُ
البوصيري وكواكبه الدريّة
ومن بعد كعب بن زهير يأتي شرف الدين بن هلال الصنهاجي الذي ولد في قرية "بوصير" ببني سويف في صعيد مصر قرابة 608 للهجرة.
وفي العصر الذي اشتهر بالمتصوّفة الكبار مثل أبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي وغيرهما، اشتهرت المدائح النبوية الشعرية وتميزت بالرصانة وجمال التعبير وقوة العاطفة.
وإضافة إلى شعره المتنوع بين المديح والعتاب والهجاء والشكوى، اشتهر البوصيري بقصيدته المطوّلة التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم وتميزت بجودتها وبلاغتها مقارنة بأشعاره الأخرى، وبدأها قائلا:
مولاي صلّ وسلّــم دائما أبدا .. على حبيبك خيــــر الخلق كلهمِ
أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم .. مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ
وتتكون بردة البوصيري من قرابة 160 بيتا، قُسمت إلى عشرة أجزاء بدأها بالغزل البريء والنسيب النبوي، ثم التحذير من هوى النفس، ومدح النبي الكريم، وذكرى مولده الشريف، ومعجزاته، والإسراء والمعراج، وجهاد الرسول، قبل أن يختمها بالتوسل والتشفّع والمناجاة والتضرّع، ويقول فيها:
محمد ســيد الكونين والثقليـن والفريقين من عُرب ومن عجـمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحـدٌ .. أبر في قولِ "لا" منه ولا "نعــمِ"
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته .. لكل هولٍ من الأهوال مقتحمِ
دعا إلى الله فالمستمسكون بـه .. مستمسكون بحبلٍ غير منفصمِ
فاق النبيين في خَلقٍ وفي خُلـُقٍ .. ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ .. غرفا من البحر أو رشفا من الديمِ
ومن بعد البوصيري اشتهرت قصيدة "نهج البردة" لأمير الشعراء أحمد شوقي التي افتتح أبياتها قائلا:
ريم على القاع بين البانِ والعلمِ .. أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرمِ
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا .. يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجمِ
وقال فيها أيضا في مدح النبي عليه السلام:
لزمتُ باب أمير الأنبياء ومن .. يمسك بمفتاح باب الله يغتنمِ
فكلّ فضل وإحسان وعارفة .. ما بين مستلم منه وملتزمِ
علّقت من مدحه حبلا أعزّ به .. في يوم لا عزّ بالأنساب واللحمِ
محمّدٌ صفوة الباري ورحمته .. وبغية الله من خلق ومن نسَمِ
وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة .. متى الورود؟ وجبريل الأمين ظمي
سناؤه وسناه الشمس طالعة .. فالجرم في فلك والضوء في علَمِ
ومثل شوقي تكلّم الشاعر المصري الكبير محمود سامي البارودي بقصيدة سماها "كشف الغمة في مدح سيد الأمة"، مستوعبا تراثا طويلا من المدائح النبوية التي أصبحت فنا شعريا وأدبيا قائم بذاته.
وبدأ البارودي بالنسيب، وتجاوزه لشعر الحكمة، ثم تناول سيرة النبي بما في ذلك نزول الوحي والغزوات، وقال محاكيا البوصيري:
أم كيف تخذلني من بعد تسميتي .. باسمٍ له في سماء العرش محترمِ
ويقول أيضا:
ولم يزل سيد الكونين منتصبا .. لدعوة الدين لم يفتر ولم يجمِ
يستقبل الناس في بدو وفي حضر .. وينشر الدين في سهل وفي علمِ
حتى استجابت له الأنصار واعتصموا .. بحبله عن تراض خير معتصمِ
فاستكملت بهم الدنيا نضارتها .. وأصبح الدين في جمع بهم تممِ
قوم أقروا عماد الحق واصطلموا .. بيأسهم كل جبار ومصطلمِ
فكم بهم أشرقت أستار داجية .. وكم بهم خمدت أنفاس مختصمِ
البديعيات والمَولديّات
وفي عصر المماليك الذين لم يحتفوا بالشعر العربي كثيرا، وجد الشعراء في مدح النبي مجالا خصبا للتنافس والتفنن في نظم القصائد العربية البديعة. وعرفت "البديعيّات"، وهي قصيدة طويلة في مدح النبي من بحر البسيط وروي الميم المكسورة، ومنها ما كتبه شهاب الدين الحميدي (المتوفى 1005 للهجرة) تحت اسم "تلميح البديع بمدح الشفيع"، ونظم البديع في مدح خير شفيع، لجلال الدين السيوطي (المتوفي 911 للهجرة بالقاهرة).
وعلى هامش متون المدائح المعروفة بالبديعيّات، عرفت شروح القصائد وظهر "التشطير" الذي يقسّم الشاعر بيته شطرين، ومثله التربيع والتخميس والتسبيع وغير ذلك.
وكان ابن جابر الأندلسي قد سبق لهذا الفن بقصيدته البديعية "الحلة السيرا في مدح خير الورى"، ويقول فيها:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم .. وانشر له المدح وانثر أطيب الكلمِ
وابذل دموعك واعذل كل مصطبر .. والحق بمن سار والحظ ما على العلمِ
سنا نبيٍّ أبيٍّ أن يضيعنا .. سليلِ مجد سليمِ العرض محترمِ
واشتهر كذلك الشاعر صفي الدين الحلي (المتوفى 752 للهجرة) بقصائده "الكافية البديعية في المدائح النبوية"، وربما يكون من أول من كتب البديعيات كذلك، إذ يقول في قصيدة "فَيروزَجُ الصُبحِ أَم يا قوتَةُ الشَفَقِ":
يا خاتم الرسل بعثا وهو أوّلها .. فضلا وفائزها بالسبق والسبقِ
جمعت كلّ نفيس من فضائلهم .. من كلّ مجتمع منها ومفترقِ
وفي المغرب اشتهرت -منذ عصر بنو مرين الذين حكموا المغرب منذ القرن السابع الهجري- قصائد المولديات التي تختص بذكرى المولد النبوي وتتميز بسهولة التعبير وخفة الوزن، وتنشد في احتفالات المولد النبوي في الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام.