البحث عن الزمن الضائع.. منظور تاريخي للانشغال
يفترض هذا النمط من الانشغال والإدمان على العمل أن الشخص المشغول يمتلك خصائص رأس المال البشري المرغوبة (كالكفاءة والطموح)، وأنه شخص نادر ومطلوب في سوق العمل، وأصبح كثير من الموظفين يفخرون بمدى انشغالهم للتعبير عن "أهميتهم ومهارتهم الاستثنائية واحتياج سوق العمل لهم بشكل كبير".

لم يكن هناك ما يشكك في أن هذه الأفكار لن تتحقق، فقد وفرت تكنولوجيا الاتصالات وأدوات النقل والمواصلات وصناعة السيارات والطائرات ما يوفر الوقت ويجعل الحياة أكثر سرعة ويقلل الأعباء، وبدأ الخبراء يتساءلون عما سيفعله الناس بأوقات فراغهم الطويلة، لكن ما حدث في الواقع كان مختلفا تماما.
الوقت كمورد للربح
تبين لاحقا أن ضيق الوقت والانشغال الزائد سيكونان من أكبر مشكلات البشر، وفي كل مكان يبدو الناس مشغولين حتى في أوقات العطلة والإجازة، وتحولت الأدوات التي يفترض أن توفر الوقت مثل السيارات والرسائل الإلكترونية وتطبيقات المحادثة والهواتف الذكية لتصبح أكثر ما يسرق الوقت والذهن، فالناس لا يكفون في عصرنا الحالي عن التذمر من إشارات المرور ومحادثات الشبكات الاجتماعية والواتساب على سبيل المثال، بحسب مقال كلير هولدسورث أستاذة الجغرافيا الاجتماعية بجامعة كيلي البريطانية.
فعندما استخدم البشر الساعات لقياس الوقت في القرن الـ18 بدؤوا يفهمون الوقت كنوع من المال، وازداد إدراك الوقت كعملة رسوخا بمجرد أن بدأ نظام العمل الحديث يقيس ساعات العمل ماليا ويحدد فترات الدوام، وأصبح كثير من الناس يشعرون بالقلق من "إهدار الوقت" أو الحاجة لادخاره لوقت الحاجة مثلما يفعلون مع المال، بحسب مقال هولدسورث بمواقع ذا كونفيرذيشن.
ومع تسارع وتيرة الحياة أصبح استثمار الوقت مفهوما رائجا، وأصبح الناس يرون وقتهم أكثر قيمة وأكثر ندرة على حد سواء، وصار الكثيرون يرغبون في استخدام أوقاتهم "بشكل أكثر ربحية"، لكن هذا مختلف تماما عن التصورات القديمة عن الوقت، فعلى سبيل المثال جادل فيلسوف اليونان أرسطو بأن الفضيلة يمكن الوصول إليها من خلال التأمل وليس من خلال نشاط مستمر لا نهاية له.
ولا يزال أولئك الذين لديهم رواتب أكبر يشعرون بمزيد من القلق بشأن وقتهم، وحتى أوقات الترفيه والراحة صارت مدفوعة الثمن، فالقدرة الفورية على تلبية الرغبات تولد أيضا نفاد الصبر وضيق الصدر، وبالطبع فإن تقنيات التواصل مثل تطبيقات المحادثة الفورية والهواتف الذكية تضاعف الضغط والتوتر الناجم عن ضرورة الاستفادة من الوقت بطريقة أفضل و"أكثر إفادة وربحية".
الحداثة والانشغال غير الحقيقي
يصور الإدمان على الانشغال في أذهان الناس باعتباره سمة سامة من سمات الحداثة، ويتم دوما عقد المقارنة بين تسارع الحياة اليومية الحالية والماضي الذي كانت الحياة فيه أبسط، بحسب عالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا.

وتعتبر الطريقة المثلى لإدارة الوقت موضوعا خلافيا قديما، ويمكن فهم بعض جوانب الهوس المعاصر بالنشاط الزائد من خلال النظر في كيفية توازن فترات النشاط والسكون لدى البشر على مر التاريخ.
وموسم إجازات بداية العام الميلادي بالطبع هو الوقت المناسب للتفكير في الانشغال، لكن بدلا من أن تكون إجازة بداية العام وقتا للتفكير والاسترخاء يجد الكثيرون أنفسهم في دوامة من التسوق أو حضور المناسبات أو الزيارات والمجاملات، فتصبح الإجازة كأنها الاستعاضة عن نوع من الانشغال بنوع آخر، وتحتاج الإجازة لإعداد وتخطيط وبذل جهد كذلك.
وفي هذه الأجواء يسعى كثيرون للتعامل مع مشكلة الانشغال وضيق الوقت، ويحصل بعضهم على مشورة متخصصة من خبراء إدارة الوقت بشأن كيفية إدارة حياتهم المزدحمة، وعلى الرغم من ذلك تشير البيانات إلى أننا لسنا مشغولين بقدر ما نعتقد.
ويقول علماء الاجتماع المختصون في البحث باستثمار الوقت منذ الستينيات وحتى الآن إن الوقت الفعلي الذي نقضيه في العمل لم يزد منذ تلك الفترة، لكن ما نعنيه بالانشغال تغير كثيرا في الثقافة العامة، وأصبح الانشغال نوعا من المدح أو شارة الشرف "إنه شخص مهم لأنه مشغول!" بحسب دراسة لجامعة إيسيكس البريطانية.
السعي للانشغال
كثيرا ما ترتبط المكانة الاجتماعية للناس بكونهم مشغولين، ففي الأزمنة الحديثة ينظر للشخص المشغول باعتباره ثريا وناجحا وطموحا أو ذا مكانة أعلى، لكن في القرن العشرين كانت الأمور مختلفة نوعا ما، فقد ارتبط وجود وقت الفراغ والراحة بمظاهر الثراء والاستغناء.
ويمكن تفسير الأمر من زاوية اقتصادية، فحقيقة أن معظم العمل الحالي هو نوع من الخدمات تجعل الوظائف تتطلب جهدا ذهنيا أكبر وذلك على النقيض من الاقتصادات القديمة التي قامت على الزراعة والتصنيع.

فإذا تفحصنا نمط العمل في اقتصاديات معتمدة على الزراعة أو التصنيع فمن المحتمل ألا يعتبر العمل الكثير والطول شيئا فاضلا أو جديرا بالحفاوة والمدح، لكن في اقتصاد الخدمات هناك سوق أكثر تنافسية بالنسبة للمواهب ورأس المال البشري.
فكلما عملت أكثر فهذا يعني أنك أكثر اجتهادا، وعندما تخبر الناس عن شخص مشغول جدا فإنهم سيفكرون فورا في نوع من الوظائف المرتبطة بالخدمات وإدارة الأعمال أو غيرها من الوظائف العقلية بدلا من التفكير في وظائف مرتبطة بالتصنيع أو الزراعة على سبيل المثال.
دروس الماضي
يشي الانشغال بسمة مميزة أخرى للحياة اليومية الحديثة، إذ تنطوي الحياة المهنية والحياة العائلية على تحمل مسؤوليات متعددة، وغالبا ما تكون التوترات بشأن الانشغال مرتبطة بعدم الاستقلالية، فنحن لا نملك وقتا لأنفسنا، في حين نندفع نحو القيام بأعمال لأشخاص آخرين، كما نستخدم الانشغال كعذر، سواء في العمل أو النشاط التطوعي أو المنزل.
الفرق في كيفية إدارة الوقت في القرن الـ21 مقارنة بالقرن الـ19 هو أنه بالنسبة للكثير من الناس لا يتم فرض الانضباط الزمني من خلال الهياكل التنظيمية والنظم الإدارية، فأثناء الثورة الصناعية كان الانضباط على مدار الساعة أكثر صرامة، في حين يعتبر العمل الحديث أكثر مرونة بما في ذلك متى وأين نعمل، لكن بالمقابل تعد إدارة هذه المسؤوليات وعلاقاتنا مع الآخرين نوعا من العمل المزدحم.
إذا كنت تأخذ بعض الوقت للتفكير في حياتك المزدحمة فضع في اعتبارك أن الحل قد لا يكون بالضرورة بشأن كيفية إدارة وقتك، بل كيف تدير علاقاتك مع الآخرين، فتنظيم الوقت بشكل جيد هو عمل جماعي وليس فرديا، وهذا درس مهم من الماضي عن الوقت يمكن أن يفيدنا.