"خرجة" سيدي بوسعيد.. طقوس صوفية راسخة بتونس

خميس بن بريك-تونس

عرفت مدينة سيدي بوسعيد التي تطل على البحر بالضاحية الشمالية للعاصمة تونس، والتي تصنف كأحد أجمل الوجهات السياحية، منتصف شهر رمضان، طقوسا صوفية مميزة ضاربة في القدم، تسمى "خرجة سيدي بوسعيد الباجي"، تيمنا بهذا الناسك الذي تبوأ مرتبة مرموقة في التصوف.

طوفان من الناس من مختلف الأعمار والأجناس تزاحموا للمشاركة في طقوس "الخرجة" التي انطلقت مساء السبت قرب مقام "سيدي بوسعيد" المحاذي لمقهى "القهوة العالية" على ربوة هذه المدينة الساحرة، التي لبست لباس الورع والتقوى، وسط طقوس وأناشيد "العيساوية" وأذكارها الصوفية.

ولم يكن يسيرا على مجموعة العيساوية العريقة بمدينة سيدي بوسعيد المرور وسط ذلك الحشد بجوقتهم ودفوفهم وسنجاقهم وأعلامهم الملونة؛ فالجميع تجمّعوا على أنغام "العيساوية" التي نشأت منذ قرون على يد الناسك المغربي سيدي محمد بنعيسى وانتشرت بشمال المغرب العربي.

يسير أعيان مدينة سيدي بوسعيد ببطء في الصف الأمامي ممسكين بعضهم البعض في تلاحم وانسجام. يرتدي جميعهم أفضل جببهم، بينما يضع بعضهم على رقبته سبحات مكونة من حبات العاج.

حركية كبيرة خلال احتفال
حركية كبيرة خلال احتفال "الخرجة" في مدينة سيدي بوسعيد (الجزيرة)

ومن الخلف يتبعهم في مسيرة "الخرجة" منشدون من مجموعة العيساوية أو "الحضّارة" ثم "الشُوّاش" الذين يرقصون على المديح النبوي، بينما يرفع بعض الشيوخ الأعلام ويرددون الأذكار.

وسط أعيان مدينته ظهر حبيب شلاقو (75 عاما) مميزا بجبته البيضاء الناصعة، زاد الشيب الذي اشتعل برأسه وكسى لحيته في وقاره، ودلّ مشموم الياسمين الذي وضعه في أذنه على تمسكه برونق مدينته التي فاض منها عبق البخور وعطر الياسمين الفواح.

يقول للجزيرة نت إنه عايش طقوس "الخرجة" منذ نعومة أظافره، وتعود أصول عائلته، التي أقامت بسيدي بوسعيد قبل أكثر من قرنين، إلى جذور تركية، وقبل أن يتقاعد اشتغل بالسياحة وتنقل لسنوات بين تركيا والمغرب ومصر وإسبانيا، لكن "لا شيء يضاهي نكهة سيدي بوسعيد ".

تاريخ "الخرجة"
يتذكر هذا الرجل جيدا طقوس "خرجة سيدي بوسعيد" الذي يعتبره التونسيون وليا صالحا متزهدا، يقول نابشا في ذاكرته التي تراكم فيها إرث مدينته المعروفة بهندستها الأندلسية، إن احتفالات "الخرجة" كانت تقام قديما طيلة ثلاثة أيام في شهر أغسطس/آب كل سنة.

 

‪أعيان سيدي بوسعيد يتقدمون
‪أعيان سيدي بوسعيد يتقدمون "الخرجة‬  (الجزيرة)

ورغم قلة المؤلفات التي كُتبت عنه يقول باحثون إن سيدي بوسعيد الباجي (1156-1230) وهو أصيل مدينة باجة (شمال غربي البلاد)، الذي كان يحرس سواحل المدينة التي سميت باسمه، يمثل نموذج الولي الورع الذي ذاع صيته بفضل مناقبه ودوره في نشر التعاليم الصوفية.

يقول حبيب الذي يشتهر بين أهله بمعرفة تاريخ مدينته إنه كان يطلق على خرجة سيدي بوسعيد قديما "المبيتة". فقد كان أهالي المدينة يستقبلون نهاية كل صيف زوار ضواحي مدينة تونس الذين قد كانوا يجلبون معهم بقرة "هدية يتم ذبحها بالاحتفال لتوزيع لحمها على الفقراء".

مشاهد خارقة
وقديما كان زوار المدينة وساكنوها ينامون ثلاث ليال في مقام سيدي بوسعيد، حيث تردد العيساوية الأذكار والأمداح النبوية، وتضفي تلك الابتهالات جوا روحانيا وخشوعا عميقا لدى الناس الذين ما زالوا إلى اليوم يقبلون بكثافة على إحياء تراث "الخرجة"، كما يقول حبيب.

حبيب شلاقو: كان يطلق قديما على خرجة سيدي بوسعيد
حبيب شلاقو: كان يطلق قديما على خرجة سيدي بوسعيد "المبيتة" ا(الجزيرة)

ويضيف للجزيرة نت أن ليلة منتصف شهر رمضان لديها مكانة روحانية خاصة لدى التونسيين الذين يأتون من كل حدب للاستمتاع بطقوس "الخرجة" التي تشكل عادة قديمة تغذي الروح بفضل ترديد الأذكار الدينية على الطريقة العيساوية التي لا تخلو من "مشاهد خارقة".

ويقول إن "الخرجة" التي تزفها إيقاع دفوف العيساوية الصاخبة تجعل بعض المؤمنين بطقوسها "يتخمرون" حتى يُغشى عليهم. وطالما رافقت أجواء العيساوية ممارسات خارقة كأكل المسامير وورقة ثمار الصبر الشائكة والزجاج و"أشياء لا يقوم بها إلا من كان محصنا".

انتهى احتفال "الخرجة" هذا العام في جو آمن، والآن ينتظر حبيب قدوم مهرجان سيدي بوسعيد يومي 19 و20 من الشهر الجاري، حيث تتواصل في المدينة السياحية الاحتفالات على إيقاع "المالوف" وموسيقى "سطمبالي" التي استمدت بدورها من الغناء الصوفي.

المصدر : الجزيرة