حقيقة ساطعة في زمن المجازر

تتحول المجزرةُ التي كانت تُمارس بصمت ومراوغة تحت جنح ليل الاستبداد والمطلق، الى النطق الصارخ حدّ الهستيريا والعُصاب الوحشي الأقصى، مدمرة في طريقها البلاد.

* سيف الرحبي

يلزمنا وقت طويل جدا، سنوات تمتد إلى عقود وأحقاب، كي نتوصل إلى ظل حقيقة هاربة باستمرار. إذن لماذا الجزم بما يشبه اليقين في تبني مسألة أو قضيّة ما في الحياة والوجود؟ إلا في ما يتعلق ببداهة أو ما يفترض كذلك، بحق الإنسان في العيش بكرامة، بحقه الإنساني الأخلاقي القانوني، الذي يضمن له الاستمرار في هذه الحياة الفانية حتماً، ككائن ينعم بحريّة مسؤولة في الاختيار كفرد وجماعة، وليس كقطيع ورقيق مسلوب الإرادة والرأي والاختيار، تحت سقف سلطة طغيان وفساد مطلقة، يصل إطلاقها مرتبة "التابو" والمقدّس.

هذه البداهة حقيقة مُعطاة، لا تحتاج إلى بحث واستقصاء إلا في التفاصيل، حقيقة جوهريّة بالغة السطوع، استخلصتها الجماعات البشريّة بعد تاريخ طويل من المعاناة والرعب الدموي اللذين جلبتهما سلطات الطغاة جراء الآلام التي يعجز عنها الوصف، والتي بسبب جوارفها الكارثية تفوق آلام الوجود بمعناه الأنطولوجي المركز في نبتة التكوين، لُحمته وشذاه.

هذه التي أضحت بداهات في الكثير من بلدان العالم، ما زالت تستعصي في بلاد أخرى ومنها العربيّة. وهي مسألة لا تحتمل المراوغة ولا الجدل العقيم حين تتحول السلطة القاهرة لحظة استعصاء وتعثّر آلة قمعها وطغيانها، إلى المجازر والإبادات الجماعية لتغرق البلاد أو ما تبقى منها في أقصى أتون الآلام والفظاعات.

حدث هذا ويحدث، بعد أن حولتهم سلطة الطغيان التي لم تتعلم شيئا من التاريخ عدا القتل بكافة صُعُده ووجوهه، إلى تجمعات عشوائيّة، واطمأنت إلى موت الوعي والإحساس بكرامة الإنسان وحلم الحريّة الصعب. يحدث أن ينبض في جسد الميّت أو ما ظُنّ أنه كذلك، نسغ الأحلام الموءودة. وتبدأ هذه الجماعة أو تلك في لملمة أشلائها الممزّقة، لتعتلي مفهوم الشعب والأمة وتحاول قول كلمة حول الحياة والمصير المُصادرين منذ قرون.

يحدث هذا وسط انحطاط قيمي وانسحاب قانوني وأخلاقي وفطري على مستوى العالم بأكمله، خاصة الدول التي تمتلك القوة شبه المطلقة وتملك الكلمة الفصل في سياق كهذا من البشاعة والتدمير، وتخون ثوابتها

انحطاط قيمي
وتتحول المجزرةُ التي كانت تُمارس بصمت ومراوغة تحت جنح ليل الاستبداد والمطلق، إلى النطق الصارخ حدّ الهستيريا والعُصاب الوحشي الأقصى، مدمرة في طريقها البلاد، بشراً وعمراناً وطبيعة ومصادر حياة، حتى أكثر الآراء تشاؤماً لم تكن ترى مثل هذه الصيرورة القاتمة لهذه البلاد العربيّة التي لا ينقصها الثراء المادي والروحي تاريخا وراهناً.

يحدث هذا وسط انحطاط قيمي وانسحاب قانوني وأخلاقي وفطري على مستوى العالم بأكمله، خاصة الدول التي تمتلك القوة شبه المطلقة وتملك الكلمة الفصل في سياق كهذا من البشاعة والتدمير، وتخون ثوابتها في إدارة العلاقات الدولية والأزمات، مما يفصح عن ذلك المستقبل المظلم للبشريّة ناحية القيم والمواثيق والعقود، التي ناضلت لأجلها عقوداً أو أحقاباً كي تصل إلى تلك الحقيقة البديهية الواضحة التي لا يكتنفها غموض الحقائق الوجوديّة الكبرى.

في مثل هذه الأحوال المظلمة المخيفة التي تفوق العبارة وإمكانات اللغة في التعبير وتسحقها، لا يكون الجدال إلا عقيماً حول "الحقائق" والمسؤوليات والتهم، مثل هذا السجال الذي يحترفه الساسةُ أكثر، يُعد ترفاً واستهتاراً بآلام الملايين، بمحنتهم في الاقتلاع من الحياة قتلاً وتشريداً إلى التيه والمجهول القاسي.

في هذه المسألة وغيرها، تغطى النوازع الدنيئة بأقنعة وخطابات أكثر تهافتاً ودناءة، خاصة حين تصدر من قبل المحسوبين على الثقافة والمعرفة الذين لا يتورعون عن استغلال مآسي البشر ونكباتهم لصالح حساباتهم الضيقة الوضيعة.

التضامن بكل أنواعه مع المنكوبين والضحايا، بغض النظر جزماً عن الانتماء إلى هذه الجماعة أو تلك، وبقطع النظر عن الانتماء بكل أشكاله، هو الحد الأدنى وهو أضعف الإيمان في هذه الحال، بعيداً عن أي جدل ومماطلة لا يفضيان إلا إلى مزيد من التبرير والمأساة.

الحقيقة مراوغة مستعصية في نظر الفلاسفة والأدباء، لكن حقيقة القتلة أعداء الحياة، والضحايا والمنكوبين واضحة بسطوع شمس آب الحارقة.
_____________
*شاعر وصحفي عُماني

المصدر : الجزيرة