في تذكر محمود درويش.. عَصِيُّون على الغياب

إبراهيم صموئيل
في الذكرى الثامنة على رحيل محمود درويش (أغسطس/آب 2008) كما في كل عام منذ غيابه, ينتابني شعور عميق رئيس, وهو أن أعظم ما في المسيرة الإبداعية لهذا الرجل ليس كونه شاعر القضية الفلسطينية، رغم انتمائه إليها ونهوضه بها واحتضانها له وإنما كونه شاعرنا جميعا.
شاعر يمكن للإنسان العربي أن يتكنّى به, ويقول بكل بساطة وثقة: أنا من الشعب الذي أنبتت أرضُ إبداعه الأدبي قامات مثل محمود درويش ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وسعد الله ونّوس.
ومن المؤكد أنني هنا لست في مجال الشهادة لمحمود درويش, بل بصدد الاعتراف بأنني من بين كل ما ينكّس رأسي جراء الكثير في الواقع العربي، أجدني مرفوع الروح بهذا الشاعر العربي, ناهض القلب, ثابت القدمين على أرض جزيرة إبداعه.
ولعل أشد ما يمكن أن يلفت نظر قارئ شعره هو كيف صار لهذا الشاعر أن ينجز أو يحقّق معادلة ليست صعبة فحسب, وإنما أقرب إلى أن تكون نظريّة وشبه مستحيلة، وأعني التحليق بالشعر والارتقاء بمستواه أعلى فأعلى في فضاءات الفن من جهة, والتغلغل في أوساط القراء أوسع فأوسع, من جهة أخرى.
ما لفتني أيضا في هذا المبدع أنه لم يتمكن من تحقيق المعادلة السابقة في منجزه الشعري فقط, بل في منجزه النثري أيضا, وبالكفاءة العالية والحرفية الباهرة والجمال الساحر الذي كان لشعره, حتى قال غير ناقد ودارس إن درويش ناثر أعظم مما هو شاعر.
لعل أشد ما يمكن أن يلفت نظر قارئ شعره هو كيف صار لهذا الشاعر أن يُنجز ويحقق معادلة ليست صعبة فحسب, وإنما أقرب إلى أن تكون نظرية وشبه مستحيلة، وأعني التحليق بالشعر والارتقاء بمستواه أعلى فأعلى في فضاءات الفن من جهة, والتغلغل في أوساط القراء أوسع فأوسع, من جهة أخرى |
وربما لا يخفف من المغالاة الظاهرة في الرأي السابق إلا قراءة نص محمود درويش "في حضرة الغياب", ذلك النص العظيم الذي يكشف عن طاقة الإبداع والتمكن الهائل, والموهبة الأصيلة لدى شاعرنا في فن النثر, على التوازي مع منجزه في فن الشعر.
وعندي أن هذا النص لا يُقرأ عنه, بل يُقرأ بذاته. يُقرأ, كما لو كان أحلامَ القارئ المؤجّلة, أو المحبَطة, بالكتابة. أو كما لو كان صبوات التعبير عن حيوات وتجارب ورؤى لم تسمح لها الحياة أو الظروف أو الإمكانات بأن تنبثق وتظهر في كتاب. إنه يُقرأ فحسب, ولهذا فإن إشارتي إليه هنا لا تعدو أن تكون دعوة للقارئ ليُترع بفيض حضرة الغياب.
وأمر آخر لطالما استوقفني لدى شاعرنا, وهو أنه رغم قامته المديدة شعراً ونثراً. رغم شهرته التي اتسعت باتساع العالم. رغم ما كُتب وقيل في منجزه الإبداعي. رغم الحضور الطاغي الذي مثّله في الحياة الثقافية العربية وغير العربية..
رغم ذلك كله, فإنه وبعد أن يقول في حوار أجراه معه الشاعر عباس بيضون (جريدة السفير 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2013) "أقدر على نقد ذاتي, وعلى اكتشاف ما ليس شعريا في شعري أو هو لمصلحة خطاب آخر"، نراه يفصح عن رأيه بما أنجز قائلا "ولو أتيح لي الآن أن أعيد كتابة كتبي, وهي حوالي عشرين كتابا, فقد لا أنشر منها سوى خمسة أو ستة فقط".
بوح كهذا, وبجرأة الكبار, والصدق الخالص في مكاشفة الذات، يعلو بشاعرنا أكثر, ويجلُّ علاقته العميقة مع تجربته, ويجعل منه أنموذجا في الإخلاص للنفس قبل أي أحد أو شيء آخر, وربما لهذا اقتبس بيضون قول شاعرنا هذا وجعله عنوانا رئيسا للحوار.
وهو في كل الأحوال, ربما كان يصلح عنواناً رئيسا مُهدّئا, وداعيا للتريث والتأني في حياتنا الثقافية التي تشهد هياجا, وتنافسا محموما, من إصدار الأعمال الأدبية, بحيث لو رُصِفت كل مجموعة من الأعمال بعضها فوق بعض, لفاقت ارتفاعاً قامة واضعها, والذي, بدوره, يشعر بالكثير من التقصير والكسل إزاء الكتابة.
أخيراً, حين يرحل مبدع عربي كبير, عادة ما يُكتب إثر رحيله, وبنيّة صادقة بلا شك, بأنه لن يغيب ولن يُنسى. لكنه -مع الأسف والحزن- سرعان ما يغيب ويُنسى على الأغلب. لا أدري حقاً لِمَ يحدث ذلك!
ولكنْ, من المؤكد أن ثمة قلّة قليلة من المبدعين لا يغيبون, ولا يمكننا نسيانهم؛ كأنهم عَصِيُّون على الغياب, وعَصِيُّون على النسيان.. بل أكاد أقول: نحن لا نستطيع تجاهلهم حتى لو أردنا. ذلك لأن منجزهم الإبداعي أقوى حضوراً, وأعمق أثراً, وأثبت في الذاكرة من أن يُغيّبهم تقادمُ الزمن, أو تطمر مُنجزَهم طبقاتٌ من إهمال أو تجاهل أو أيّ من المسمّيات الأخرى.
محمود درويش -بجدارة- أحد هؤلاء.