مرايا الغياب.. محنة أم تونسية هجّرت ابنتها لسوريا

خميس بن بريك-تونس
جاءت "مرايا الغياب" -الفائزة بالجائزة الذهبية "للكومار" الأدبي مناصفة مع رواية "توجان"- في لغة تنهل من الذاكرة ومن الحلم، من الوهم ومن الإحساس بالواقع؛ فكانت رواية الشعور لا رواية الحركة، تدخل القلب دون استئذان وتستنفر كل مشاعره الباطنة.
تبدأ الحكاية من النهاية حيث تتسلل الراوية إلى أعماق شخصية الأم "آمنة" التي تبدو تائهة خائفة حيرانة وهي تنتظر دورها في مطار مليء بالمسافرين والمودعين لتسجيل حقائبها، مع صحفي سيرافقها في السفر إلى سوريا بحثا عن ابنتها الضائعة.
تتدرج الراوية في تقديم الشخصيات من السرد إلى "المونولوج"، فيسمع القارئ صدى صوت باطني مخنوق لآمنة التي بدت مكسورة الخاطر من زوجها "الناصر" الذي رفض مرافقتها، متسائلة لماذا تنتظر عيناها ببلاهة أن يظهر زوجها الذي طالما "خذلها".

في بداية القصة تتعجب آمنة من الأيام، فبالأمس القريب كان كل شيء جميلا، وكانت على وشك أن تسترجع رغبة في الحياة مع زوجها فارقتها منذ زمن، بعدما استطاع أن يذيب بعض الجليد الذي تراكم في قلبها ليدعوها في عيد ميلادها إلى رحلة بحرية.
حلم يتبخر
لكن الحلم يتبخر وكل شيء يتداعى للسقوط والانهيار نحو الهاوية، فاتحا أبواب جحيم الجنون أمام آمنة التي تمسكت بأن تأخذ ابنتها "منيار" معهما في الرحلة حتى لا تتهمهما بإهمالها قبل أن يرن جرس الباب ويسلمها ساعي البريد ظرفا طارئا من المدرسة.
تفتح آمنة بأصابع مرتبكة الرسالة، تقرأها ولا تفهم، يرى زوجها الاضطراب يكاد يطفر من عينيها، يسألها عن الطارق ولا تقول شيئا، يأخذ الرسالة فتسمعه يقرأ في ذهول أن إدارة المدرسة تدعوهما للاتصال بها نظرا لتغيب ابنتهما، فكانت العبارات كالهراوات.
ترفع آمنة عينيها لتستنجد بزوجها الناصر فتصدمها نظرات الاتهام في عينيه بأنها أم مهملة، ولا يُهدّئ كلام ابنها الصغير مراد من روعها، فينفجر كل مرة حوار مباشر حاد كشف عن عجز حقيقي عن التواصل بين الشخصيات داخل الأسرة المفككة.
حول ذلك تقول الكاتبة نبيهة العيسي للجزيرة نت "كان الحوار المباشر في أغلبه خطابا مرتدّا على الذات عاجزا عن الفعل في الآخر أو التأثير فيه"، مشيرة إلى أنها كتبت النص ليكون مكافئا لغربة الأم "التي كلما حلمت بالتحرر وقعت في مزيد الاستعباد".
فضلا عن الحوار المباشر، استخدمت الكاتبة أسلوب الخطاب الاسترجاعي الذي يعتمد الذاكرة وأسلوب الخطاب المشظى بفعل تعدد الرواة وتتالي الشروخ الزمانية التي ساهمت في انشطار النص، وسط كمٍّ من التوسعات التي يتداخل فيها الحلم والواقع.
وقد يُخيّل للقارئ أنه أمام مدٍّ وجزر لبحر من الأحاسيس وهو يقرأ الرواية التي كادت بطلتها آمنة تفقد رشدها وهي تسأل وتبحث دون هوادة عن حقيقة اختفاء ابنتها التي بدت كالثلج باردة العواطف معها، إلى أن تتصل بها هاتفيا لتخبرها بالحقيقة الصادمة.
صوت آمنة في الرواية لم يكن من نسج الخيال، وإنما كان صوتا مختنقا وصل الكاتبة من مذياع سيارتها لأمّ ملتاعة اكتشفت التحاق بابنتها بالحرب في سوريا |
بطل سلبي
بحسب الراوية، فإن شخصية آمنة في "مرايا الغياب" كانت نموذجا للبطل السلبي، فارغة من عاطفة الحب الذي كان قرين الخوف تارة والكره أو الرغبة في الانتقام أخرى، غير أنها بعد أن خسرت ابنتها لم يعد لها ما تخاف عليه فأصبحت ترى الحياة بعين جريئة.
ورغم تحديها الخوف من المجهول ونجاحها بفضل مساعدة الصحفي "عماد" في العثور على ابنتها في الرقة، فإن كل ما استطاعت أن تفعله الشخصية المحورية لم يكن سوى تمرد جاء بعد أوانه، فهي لم تنجح في الفرار مع ابنتها التي قتلت بينما تاهت آمنة.
والمثير أن صوت آمنة في الرواية لم يكن من نسج الخيال وإنما كان صوتا مختنقا وصل الكاتبة من مذياع سيارتها لأمّ ملتاعة اكتشفت التحاق ابنتها بالحرب في سوريا، وكانت المذيعة تحاصر تلك الأم بأسئلتها والأم عاجزة عن الإجابة، مما دفع الراوية للكتابة.
لكن الحدث المحوري الذي اشتغلت عليه الكاتبة للفتيات المهجرات لم يكن حدثا مفردا، "فحدث الغياب كان بمثابة الشجرة التي تملأ فضاء اللوحة، ولكنك متى أدمت النظر إليها اكتشفت أنها تخفي غابة من العنف غير المعلن الذي تشكل في النص في أسئلة شتى".