"من حلب إلى باريس".. نص مجهول لحنا دياب
أنطوان جوكي-باريس
نعرف الكاتب السوري حنا دياب من خلال ما ذكره عنه المستشرق الفرنسي أنطوان غالان في يومياته، بشأن مساهمته القيمة في كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي وضعه غالان في مطلع القرن الثامن عشر. لكن ما لا نعرفه عنه هو أنه كتب نصا طويلا عام 1766 روى فيه تفاصيل سفره إلى باريس بين العامين 1708 و1710.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن هذا النص بقي مجهولا إلى أن اكتشف الباحث الفرنسي جيروم لانتان مخطوطته الوحيدة في مكتبة الفاتيكان عام 1993. ونظرا لقيمته الأدبية والتاريخية، تعاون لانتان مع بول فهمي تييري وبرنار هيبيرجي سنوات طويلة لنقله إلى الفرنسية، قبل أن تصدر هذه الترجمة أخيرا عن دار "أكت سود" الباريسية بعنوان "من حلب إلى باريس".
ولا عجب في انتماء هذا النص إلى أدب الرحلة الذي كان ممارسا في سوريا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خصوصا من قبل المسيحيين، كما يشهد على ذلك نص بطريرك الروم الأرثوذكس ماكاريوس الزعيم عن سفره إلى جورجيا، أو نص ابنه بولس عن سفر والده إلى موسكو، أو نص الكاهن العراقي إلياس الموصلي عن إقامته الطويلة في أميركا.
ما يميز هذا الكتاب عن غيره هو أن صاحبه إنسان عادي لم يكن لديه أي طموح في ممارسة هذا النوع الأدبي واحترام مميزاته |
الفصحى والمحكية
لكن ما يميز نص "من حلب إلى باريس" عن هذه النصوص وغيرها هو أن صاحبه إنسان عادي لم يكن لديه أي طموح في ممارسة هذا النوع الأدبي واحترام مميزاته، فبخلاف النصوص المذكورة أو نص شيخ دمشق عبد الغني النابلسي، أو نص رفعت الطهطاوي الشهير "ذهب باريس"، لم يسعَ دياب إلى إثراء نصه بمراجع ثقافية غزيرة أو باقتباسات وأبيات شعرية، كما لم يسعَ إلى الكتابة بأسلوب أدبي منمّق، بل استعان بلغة هي عبارة عن مزيج من اللغة الفصحى واللغة المحكية في حلب، مسقط رأسه.
وما يميّز دياب أيضا عمن سبق ذكرهم هو أنه لم يقم برحلته تأديةً لمهمة، كما هو حال الطهطاوي ومحمد أفندي، أو بهدف التقصي في "بلاد المسيحيين"، كما هو حال الموصلي والزعيم وعدد كبير من رجال الكهنوت الشرقيين، فسفره هو نوع من الرحلة المسارية لشاب كان يبحث عن طريقه، ونصه مكتوب كتأمل في الحياة التي منحته في شبابه فرصا مختلفة لم يعرف أو لم يشأ اغتنامها.
وفي هذا السياق، يبدأ دياب نصه بسرد تجربته راهبا مبتدئا في دير بجبل لبنان لن يلبث أن يعود إلى حلب بعد شكّه في دعوته. وحين يفشل في العثور على عمل ويقرر العودة إلى الدير، يلتقي بالرحالة الفرنسي بول لوكا الذي يأخذه مساعدا في سفر يقودهما إلى بيروت وصيدا، ثم إلى قبرص ومصر وليبيا وتونس، قبل أن يعبرا المتوسط ويتنقلا بين ليفورن وجنوى ومرسيليا وباريس.
أما رحلة العودة فستتم من دون لوكا ويتوقف دياب خلالها في مرسيليا وإزمير وإسطنبول حيث يبقى فترة طويلة، قبل أن يعبر الأناضول مع قافلة في اتجاه حلب.
يشهد نص دياب على حرية أكبر في السرد والتعبير لعدم انغماسه في ثقافة أدبية يتوجب الاحتفاء الثابت بها، كما فعل كتاب أدب الرحلة داخل نصوصهم، ولعدم شعوره بواجب التطرق إلى الأماكن والمواضيع المعهودة التي تحضر في نصوص هذا الأدب، بل نراه يمنح الأولوية لتجاربه الخاصة |
تجارب خاصة
ومقارنةً بنصوص معاصريه، يشهد نص دياب على حرية أكبر في السرد والتعبير لعدم انغماسه في ثقافة أدبية يتوجب الاحتفاء الثابت بها، كما فعل كتّاب أدب الرحلة داخل نصوصهم، ولعدم شعوره بواجب التطرق إلى الأماكن والمواضيع المعهودة التي تحضر في نصوص هذا الأدب، بل نراه يمنح الأولوية لتجاربه الخاصة، معبرا بإسهاب عن مشاعر الدهشة والحيرة والخوف التي اعترته أثناء سفره، مما يعكس التزاما من قبله بسرد مرحلة بعيدة من حياته بأمانة.
ومع ذلك، نستشف في النص مهارات سردية كبيرة وميلا لاستحضار العجيب والغريب اللذين يتجليان خصوصا في طرف مدرجة داخل عملية السرد، كما نستشف شبها مع قصص "ألف ليلة وليلة" على مستوى طريقة تشييد دياب لسرديته، حيث تتفرع من القصة-الإطار قصص ثانوية كثيرة، أو على مستوى طبيعة المغامرات البحرية والبرية الشيقة التي يرويها.
أما ما يتشارك دياب به مع معاصريه الذين عاشوا وكتبوا عن تجربة سفر مماثلة فهو توقفه عند الجديد والمثير الذي سيقع تحت أنظاره في فرنسا، كالتقدم التكنولوجي، وزي النساء وموقعهن في الفضاء العام، والتنظيم السياسي والإداري، وانتشار المدارس والمعاهد المتخصصة، وهي ملاحظات تقوده أحيانا إلى مقارنات مع حال بلده، لكن من دون الوقوع أبدا في مديح الغرب.
باختصار، يشكل هذا النص وثيقة فريدة بقيمته السردية وغنى الملاحظات التي يتضمنها، وأيضا بتلك الحميمية التي يرسخها دياب مع قارئه عبر كشفه الثابت والصريح لمشاعره وانطباعاته، مما يمنح نصه نكهة فريدة.