في تونس.. مرضى نفسيون لكنهم مبدعون

خميس بن بريك-تونس
لم يعد الفن مقتصرا على الأسوياء فقط، فقد أذهل مرضى نفسيون في تونس أهل الفن أنفسهم بفضل رسومات جذابة ومنحوتات جميلة تحاكي واقعهم وما يختلج ببواطن نفوسهم وتخرج من "اللاوعي" معبرة عن إدراك كبير للواقع وتمكن واضح من أدوات الفن التشكيلي.
والمدهش أنّ هذه الرسومات والمنحوتات من قبل مرضى نفسيين بعضهم ارتكب جرائم قتل، وقد نجح الأطباء والمعالجون في أن يحولوا عُقدهم النفسية إلى إبداعات لا تخفى حتى عن العين الخبيرة بالفن التشكيلي.
وتبدأ الحكاية في مستشفى الرازي للأمراض النفسية بالعاصمة، حيث خضع مرضى نفسيون للعلاج الوظيفي والعلاج بالفنّ، ثم مع مرور الوقت تفجرت إبداعاتهم لتنتهي بإقامة معرض فني مميّز.
ونظم المعرض بقصر العبدلية بالعاصمة تحت شعار "لنهذي فنا" وضمّ نحو 152 عملا موزعا على رسومات زيتية ومائية ومنحوتات خزفية تصوّر جمالية الطبيعة والحيوانات، كما يراها المرضى.

ورشة الشفاء
ويقول جابري، وهو أحد المرضى النفسيين المقيمين بمستشفى الرازي والذي نشرت أعماله بالمعرض، للجزيرة نت، إنه شعر بتحسن كبير بفضل حصص الرسم والنحت التي يحضرها بانتظام بالورشة.
ويضيف بشيء من تلقائية الأطفال وبراءتهم أنه عندما يرسم يبتعد عن آلام الماضي، مشيرا إلى أنه بات متعلقا بالتصوير إلى درجة أنه لا يفكر لحظة في الانقطاع عن الرسم حتى بعدما يجتاز محنته.
يتذكر جابري -الذي تلازم الضحكة محياه كثيرا- ابنه وابنته، وهو يحلم منذ ست سنوات مستجيبا للعلاج الوظيفي باقتراب لحظة العودة إلى داره وبيده فرشاة الرسام الذي اكتشفه صدفة بداخل شخصه.
ووضعية هذا الفنان لا تختلف عن وضعية نزلاء "الرازي" الذين يخضعون للعلاج بالفن، فقد باتوا حريصين على "جرعات" من الرسم لينفسوا عن ذواتهم ويعبروا بالريشة ما لا يقدرون على قوله باللسان.
وتقول الفنانة التشكيلية أمل شورى التي التحقت منذ سنتين بمستشفى الرازي كمختصة بالعلاج بواسطة الفنّ إنّ الرسم أعاد الأمل والثقة لدى المرضى، فأصبح بعضهم مبدعين حقيقيين بفضل عفويتهم.
ورغم أنها وجدت صعوبة بادئ الأمر في إقناع المرضى بالمشاركة في حصص الرسم وتعلّم خلط الألوان وأبجديات التصوير، فإنها تؤكد أنهم سرعان ما تفاعلوا معها حتى أصبحوا يلقبونها "دكتورة الطين".

ثقة وإبداع
تقول أمل إنها تمكّنت من زرع الثقة في نفوس المرضى بأنه بمقدورهم أن يصبحوا مبدعين مثل الرسام الشهير فان غوخ الذي سطع نجمه في عالم الفن رغم أنه عانى من مرض نفسي واكتئاب شديد.
وأضافت أنّ المرضى أذهلوا الجميع لمّا فجروا مواهبهم في الرسم والنحت على الخزف بتقنيات مختلفة، مبرزة أنّ أعمالهم الفنية المعروضة تضاهي بعض الأعمال الراقية التي ينجزها أهل الفن أنفسهم.
وتقول أمل إن مبيعات المعرض ستساهم ليس فحسب في تحسين موارد مستشفى الرازي، وإنما في تغيير الأحكام المسبقة التي تزيد من معاناة المرضى النفسيين وتقوقعهم والعزلة عن المجتمع بأسره.
من جهتها، تقول المختصة بالعلاج النفسي بمستشفى الرازي وفاء سعيد الهذلي للجزيرة نت إنّ العلاج الوظيفي للمرضى النفسيين يساعدهم على كسب الثقة، وعلى الاندماج في المجتمع والخروج من العزلة.
وأكدت أنّ الأطباء النفسيين بمستشفى الرازي يلجؤون لاستخدام العلاج الوظيفي مثل الرسم والموسيقى، إضافة إلى اعتماد الأدوية، لأنه أظهر نجاعة كبيرة في تهيئة المرضى لاستعادة حياتهم طبيعيا.
من جهة أخرى، يقول رئيس وحدة العلاج والإدماج بمستشفى الرازي للجزيرة نت إنّ حصص الرسم فضلا عن كونها تمثل نشاطا ترفيهيا مسليا، فهي تشكل كذلك طريقة لتقييم حالة المرضى.
ويوضح دريدي حداد أنّه يمكن ملاحظة تحسن المريض من خلال رسوماته كلما كانت الأشكال منفتحة والألوان زاهية، في حين تعكس الأشكال الدائرية المغلقة والألوان الداكنة تأزما بحالته النفسي.
ويقول "التصوير له أهمية كبرى في تقدم العلاج النفسي" مشيرا إلى أنّ الأطباء من خلال متابعتهم الدورية لرسومات المرضى النفسيين يقدرون درجة الإحاطة العلاجية اللازمة لكل مريض.